«المعرفة قوة Knowledge is power»، ومن يمتلك المعرفة والمعلومات يمتلك القوة، ومن يمتلك المعلومة المؤثرة تكون له قوة مؤثرة.. أما من هو محروم من المعلومات فهو كذلك محروم من أي شكل من أشكال القوة.. وكانت الدول فيما مضى تتبارى في استعراض قوتها العسكرية، أما اليوم فإن القوة العسكرية تتراجع أمام القوة الجديدة التي تعبر عنها المعلومة.. والمعلومة تشكل جوهر القوة التي تمتلكها المؤسسات والدول الحديثة..
واليوم تتبارى الدول والمؤسسات في السيطرة على منابع المعلومات، ومجريات انتشارها، وخطوط إنتاجها، وذلك من أجل التحكم في المعلومات وتلوينها، وتظليلها، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.. فالمعلومة هي جوهر القوة الجديدة في العالم..
وينبغي التفريق هنا بين مسألتين، أولاهما «الرسالة» التي تشكل جوهر القوة وقوة الجوهر، وثانيهما «الوسيلة» أو الأداة التي يتم من خلالها توزيع الرسالة ونقلها إلى الجهات المراد توجيهها إليها.. وهكذا فالمعلومة تتأسس على قاعدة مضمون، وقاعدة انطلاق وسائلي لتوجيه هذا المضمون.. أي أننا بحاجة مثلاً إلى قوة مكونة من عناصر ومواد تدميرية من المعلومات والقيم والسلوكيات، ونحتاج كذلك إلى آلة حديثة شبيهة بآلة عسكرية نستخدمها لإطلاق هذه القوة إلى الآخر لتفعيل تأثيرها على الآخرين بما يحقق أهدافنا..
ونحن في الوطن العربي والعالم الإسلامي نفتقر إلى المعلومة المؤثرة في حياتنا وفي حياة الآخرين المحيطين بنا، بل إننا كمؤسسات ودول ومجتمعات نمثل مستهدفات استراتيجية لمن يمتلك المعلومات ويوجهها ضدنا لتحقيق أهداف مرحلية في خلخلة قواعد الاستقرار لدينا، أو استراتيجية في التأثير على مجريات الشأن العام وتوجهات العقل الفردي.. ونصبح نحن هدفاً لحملة معلومات موجهة تهدف إلى التضليل والتشويش والاختلال وذلك بهدف إعادة بناء مسلمات الفرد وقناعات المؤسسة..
الوطن العربي والعالم الإسلامي أصبح من المستهدفات الغربية على المدى الاستراتيجي، فها هي وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون تستحدث مؤخراً مكتباً جديداً في هيكلها الإداري تحت مسمى «مكتب التأثير الإستراتيجي» Office of Strategic Influnce وذلك بهدف التأثير على العالم بما يخدم المصالح الأمريكية.. والخطورة تكمن في السماح للمؤسسات الأمريكية بأن تستخدم كل المعلومات الممكنة من أجل تحقيق هذا التأثير على الناس والمؤسسات والدول.. حتى لو اقتضت الحاجة الكذب والاختلاق وتدابير المعلومات والآراء من أجل تحقيق أهداف معينة تحاول الولايات المتحدة الأمريكية الوصول إليها بأي طريقة كانت وبأي وسيلة أتيحت..
ويعني ذلك العودة إلى حرب الدعايات التي عاشها العالم في الفترة بين الحربين العالميتين، وتحديداً خلال الحرب العالمية الثانية..ونحن نعرف الدور الذي كانت تقوم به الدعاية النازية ضد جيوش ومجتمعات الحلفاء.. ونحن ومنسوبو الدفاع الغربيون نستذكر الأساليب الدعائية التي كان يقوم بها وزير الدعاية الألماني جوبلز من اختلاق وتضليل وتشويش على إعلام الغرب المتحالف ضده.. ونحن نعرف أن الكذب كان وسيلة أساسية في التضليل، وكلما يعتقد جوبلز كانت الكذبة كبيرة جدا كانت امكانية تصديقها أكبر.. واليوم نحن والعالم نعود إلى مربع رقم واحد.. أي أن العالم مهدد الآن بمحاولات تزوير وتعتيم وتضليل كبرى تكون الولايات المتحدة بطلتها هذه المرة بدون أدنى شك..
وواضح أن الصدمة التي تلقتها الولايات المتحدة أصابتها في مقتل، وأودت بها إلى عدم توازن، وباختلال عقلاني في سلوكياتها المعتادة والمألوفة.. وهكذا يصبح القرار الأمريكي بعد اليوم وبعد إنشاء هذا المكتب مشكوكا في مصداقيته ومنطقيته وعقلانيته كذلك..وإذا كان هذا المكتب هو الذي سيدير القرار الأمريكي فإن العالم سيكون أمام حالة من الفوضى التي ستؤدي لا محالة إلى حروب الدعاية وحملات التضليل التي ستجر العالم إلى ويلات وشكوك وخلافات ايديولوجية واسعة النطاق..
ويعيد التاريخ نفسه باتجاه معاكس، فقد حاولت الإدارة الأمريكية في بداية الحرب الباردة الخمسينيات أن تقف ضد الستار الحديدي والتضليلات الإعلامية التي كان الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية يقودها ضد المعسكر الغربي.. ويعتبر الرئيس الأمريكي هاري ترومان صاحب حملة الحقيقة campaign of truth التي وجدها ضرورية في مواجهة حملة الكذب والتضليل التي اشتهر بها الرئيس السوفيتي ستالين.. وهكذا بدأت حملة الحقيقة من بداية الخمسينيات إلى أن أسقطت الاتحاد السوفيتي في التسعينيات، أي بعد حوالي أربعين عاماً من هذه الحملة، والتي استخدمت كل الأساليب الإعلامية «إذاعات الحرية، وصوت أمريكا وغيرها» والأساليب الاستخباراتية المختلفة.. أما اليوم فيأتي الرئيس الأمريكي جورج بوش ليبدأ حملة جديدة هي حملة «التضليل» التي رسمت خططها وزارة الدفاع الأمريكية وربما سنشهد قريباً تنفيذها على أرض الواقع..
ونعود إلى مقدمتنا في هذا المقال لنقول بأن المعلومات قوة، إذا كانت المعلومات دقيقة وصحيحة ومنطقية، وسيكتب لها التأثير الكبير على الناس والمؤسسات والدول والمجتمعات.. ولكن إذا كانت المعلومات مختلقة ومشوشة وغير دقيقة ومضللة، فإن الاستعانة بمؤسسات إعلامية كبرى وبأجهزة استخباراتية مؤثرة في الشأن الدولي ستكون ضرورة بشكل خاص مع المعلومة التي تعتسفها المصالح وتؤثر عليها القيم الجديدة.. ولاشك أن قرار تأسيس مكتب «التأثير الإستراتيجي» بوزارة الدفاع الأمريكي من خلال الصيغ المطروحة لأهدافه ووسائله ستمثل أخطر قرار اتخذته إدارة أمريكية في العصر الحديث.. فمن خلال هذا المكتب ستعلن الولايات المتحدة طلاقا كاملا مع قيم الحقيقة والعدل والمساواة، وستتبنى قيماً جديدة ستبعدها عن العالم كثيراً.. وربما إذا نجحت المنظمات «الإرهابية» حسب المفهوم الأمريكي في شيء واحد، فهو بلا شك التأثير على سلامة المنطق الأمريكي، وخلخلة التفكير العقلاني للقرار الذي اعتاد العالم أن ينتظره من البيت الأبيض..
* أستاذ الصحافة والإعلام الدولي جامعة الملك سعود |