وصف الله سبحانه في كتابه الكريم قوم هود، عليه السلام، بأنهم عاد الأولى، وذلك عندما ذكر اهلاكه لهم في سورة «النجم».
وكان لذلك الإهلاك أسباب متعددة في طليعتها كفرهم بالله وتكذيبهم رسوله، ولقد أنعم الله عليهم، فأمدهم بأموال وبنين وجنات وعيون حتى بلغوا من القوة حداً وصفت به قاعدتهم «إرم ذات العماد» بأنها لم يخلق مثلها في البلاد. غير أن من ضلوا عن الهدى لم يرعوا نعمة الله عليهم، بل قابلوها بما ذكره الله عنهم في سورة فصلت بقوله: {فّأّمَّا عّادِ فّاسًتّكًبّرٍوا فٌي الأّرًضٌ بٌغّيًرٌ پًحّقٌَ وّقّالٍوا مّنً أّشّدٍَ مٌنَّا قٍوَّةْ}
ولم يكن غريباً أن يكون رد فعل أولئك الذين بلغ بهم الاستكبار الى تلك الدرجة تجاه من يحسون بأنه ينوي محاولة تحديهم بمنتهى الجبروت. وقد بين الله ذلك في سورة الشعراء على لسان هود عليه السلام حين خاطبهم قائلاً: {وّإذّا بّطّشًتٍم بّطّشًتٍمً جّبَّارٌينّ (130)} .
هكذا كان من صفات عاد الأولى: الكفر بالله ونعمته، والاستكبار في الأرض بغير الحق، والاستعراض العنجهي للقوة أمام العالم، والبطش المتجبر بالآخرين.
وكنت عازماً على وضع عنوان هذه المقالة «عاد الأخرى« لكني عندما رجعت الى بعض كتب التفسير وجدت أنها قد ذكرت أن عاداً الأخرى قوم صالح عليه السلام. فرأيت تقديراً واحتراماً لمؤلفي هذه الكتب أن أجعل العنوان «عاد هذا الزمان»، وأعني بهذه العاد المعاصرة الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أنعم الله على أمريكا بأنواع من النعم، في طليعتها الجنَّات والعيون، والتوفيق في امتلاك أزمَّة التصنيع وادارة الاقتصاد، وزاد امدادها بالبنين بزيادة هجرة العقول المتعلمة، والأيدي المدربة اليها من جميع أقطار العالم، فهل شكرت تلك النعم؟. إذا كانت «عاد الأولى» قد كفرت بالله ونعمته فإن أمريكا جعلت المال هو المحرك الأساس لتوجهاتها ومشاعرها ومواقفها. واذا كان هناك من يشاركها في هذه الصفة فإنها تأتي في قمة النظام الرأسمالي الذي يجعل المادة متغلبة على أي مبدأ روحي أو انساني.
وإذا كانت «عاد الأولى» قد استعرضت عضلات قوتها أمام معاصريها بقولها:{«من أشد منا قوة} فإن قادة الولايات المتحدة الأمريكية يعبرون الآن عن المعنى نفسه، وذلك بتحديهم دول العالم كلها واعطائها خياراً واحداً أو بعبارة أصح لا يعطونها خياراً واقعياً إما أن تكون معهم دون تردد أو نقاش وإلا فإنهم سيعدونها عدواً في مقدورهم ان يهاجموه متى شاءوا. ولا أظن عاقلاً لديه اقتناع بأن موقف هؤلاء القادة سببه الأول والأخير ذلك الهجوم الذي وقع في الحادي عشر من سبتمبر الماضي على برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع في واشنطن. ذلك أن تاريخ الإدارات الأمريكية ا لمتعاقبة قد شهد مواقف مشابهة لهذا الموقف قبل الهجوم المشار اليه.
وما اطاحتها برئيس تشيلي المنتخب انتخاباً شعبياً نزيهاً واحلال جنرال محله الا مثل لتلك المواقف. ودعمها القوي للأنظمة العسكرية التي ابتليت بها بعض الدول الإسلامية، أو الأنظمة التي أتت إلى سدة الحكم عن طريق انتخابات صورية مهزلة مدعومة بجنرالات جيوشها، ضد التوجهات الإسلامية الشعبية مثل آخر للمواقف المذكورة، علماً ان الحكومات الأمريكية تدعي دائماً زوراً وبهتاناً أنها ضد الأنظمة الدكتاتورية التي لا تعتمد على أساس انتخابي شعبي نزيه.
وكانت «عاد الأولى» اذا بطشت بطشت جبارة، فما هي حال الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال؟
كان هجوم اليابانيين، في الحرب العالمية الثانية، على الشواطئ الأمريكية داخلاً ضمن نطاق أساليب تلك الحرب الشرسة التقليدية. وكان الرد الأمريكي على ذلك الهجوم أوضح صورة على تحلِّي القيادة الأمريكية بصفة بطش الجبارين. فقد قامت دون وازع من ضمير بضرب نجازاكي وهيروشيما بالقنابل الذرية المدمِّرة حتى غدا أهلها الأبرياء أثراً بعد حين. وتوالت تصرفات أمريكا منذ تلك الحرب تمثل بطش الجبارين أوضح تمثيل. وان القيادة الأمريكية الحالية لتعلم علم اليقين كما يعلم غيرها أن المسؤولين عن الهجمات على برجي مركز التجارة العالمية ومبنى وزارة الدفاع لم يكونوا إلا حفنة من الجهلة بالواقع السياسي العالمي. لكن تلك القيادة أملت عليها عنجهيتها وغطرستها أن تتجاهل الحقائق كما هي، واذا بها تبطش بطش الجبارين بآلاف المدنيين الأبرياء في أفغانستان، زاعمة أحياناً ان بعض فتكاتها الاجرامية المرعبة بأولئك المدنيين الأبرياء كانت نتيجة أخطاء فنية مع أن ما تملكه من تقنية متطورة دقيقة جداً تفند ذلك الزعم. وليست معاملتها للأسرى الذين نقلتهم من أفغانستان الى قاعدتها في كوبا الا تمثيلاً فاضحاً مشيناً لكل ما تتصف به من جبروت يتنافى مع وجود أي قدر من انسانية أو عدالة.
واذا كانت «عاد الأولى» التي استكبرت في الأرض بغير الحق، وتشدَّقت بقولها: {من أشد منا قوة}، ولم تر أن الله الذي خلقها هو أشد منها قوة، قد حاق بها عذابه الشديد فإن الولايات المتحدة عاد هذا الزمان التي تتصف بكثير من صفات «عاد الأولى» المقيتة ليست في منأى عن قدرة الله الذي قال في محكم كتابه: {إن ربَّك لبالمرصاد}.
|