Saturday 9th March,200210754العددالسبت 25 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يارايارا
فنان مجلب البقر
عبدالله بن بخيت

ما الذي حل بشادي العسيلة؟ فمنذ أعوام لم أسمع منه ولم اسمع عنه. لم تعد تصلني أخباره كما كانت تصلني في الماضي. أخذت أخباره تقل وتضمر حتى تلاشت. لو أنه مات لوصلني خبر موته، فالمدينة مهما كبرت لا تستطيع ان تكبر على أخبار الموت. أكيد انه ما زال على قيد الحياة. ما وصل اليه من فشل لم يكن غريبا عليَّ. كان لدي احساس بذلك منذ ان كنا في الرياض القديمة. منذ أن بدأ يداعب العود على حد تعبير اخواننا الصحفيين. لم أكن الوحيد الذي تملكه ذلك الاحساس. كل عيال الحارة داهمهم نفس الاحساس في وقت من الأوقات. رغم ان النظرة الموضوعية لعلاقته بالفن لو كتبت على الورق ومررت على ألف قارىء فلن يتردد أن يعلن ان ذلك اليافع سيكون أعظم فنان في المملكة. كانت تتوفر فيه كل الصفات الأكاديمية التي يجب ان تتوفر في الفنانين. كان صوته جيداً. وعزفه على العود لا يمل. كان يطربنا بتقاسيم فريد الأطرش الشهيرة. جسده ووجهه مقبولان بكل المقاييس. أما طموحه بأن يصبح فنانا كان كافيا ان يجعله أعظم مطرب على وجه الأرض. حارب على كل الجبهات وضحى بكل شيء من أجل أن يكون فنانا. ولكن بعد كل هذه السنوات لم أعد أسمع عنه. سقط في منتصف الطريق. كنا نشجعه وندفعه الى الأمام مع ان أياً منا لم يكن يؤمن بذلك. كنا طلبة في المرحلة المتوسطة. ليس لدينا خبرة أو قدرة على التعبير عن الأشياء المتعلقة بالوجدان. حتى الآن رغم مرور سنوات طويلة وتعلمت كيف أعبر عن رأيي في كثير من المواقف أقف عاجزا عن تحديد الأسباب التي أدت الى انهياره وفشله. وبسبب هذا الموقف الغامض من قدراته أطلقنا عليه لقب شادي العسيلة. أما من يغضب منه أو يختلف معه كان يسميه «شادي البقر».
كنا صديقين حميمين. كنت في الواقع أكثر من صديق بالنسبة له. كنت مستشاره في شؤون الفن. كان يحب سعد ابراهيم وأبوسعود الحمادي وحتى سالم الحويل وكنت ألقنه طلال مداح ومحمد عبده وعبدالله محمد على أساس ان هؤلاء الآخرين يمثلون الفن الحديث. كنت من أفضل المستمعين له. ولكن الأيام باعدت بيننا بعد ان تمزقت الرياض القديمة وانتثرت في الأنحاء. فأصبحنا نرى بعضنا مرة كل خمس سنوات أو هكذا. كنت أسأله كلما التقيته نفس السؤال وكان يجيبني دائما بنفس الجواب. ها وش أخبار الفن؟ فيجيب: ان شاء الله سوف أسجل في القاهرة أغاني جديدة. نفس الكلام سنوات وسنوات حتى اختفى من حياتي نهائيا.
صادف ان وقع بيتنا وبيتهم في وسط طريق الملك فهد أثناء تحركه. فسحقهما وأزالهما من الأرض. فانتقل هو وأهله الى شارع الخزان. كان هذا فألا حسنا. فالخزان خطوة متقدمة بالنسبة لكل من يسكن في العسيلة والقرينين وأم سليم. وعندما قابلته هناك بدا لي أنه كان في غاية السرور. أحسست أنه يتطور. وعلى ضوء ذلك أو منطقيا ستكون حركة تنقلاته الى الأمام. فمن الخزان كان يفترض ان يتحرك الى شمال المربع. ومن شمال المربع الى العليا ومن العليا الى حي الورود ومن حي الورود الى حي النخيل حتى ينتهي الى بفرلي هلز مع الفنانين العالميين. ولكني سمعت ان الرجل تطور في الطريق المعاكس. انتقل من الخزان الى الجرادية ومن الجرادية تراجع خطوة أخرى واستقر فترة طويلة في حلة ابن دايل. وآخر ما سمعت عنه انه تزوج وأصبح أبا وانتقل الى حلة ابن نصار.
اختار الطريق المنطقي لانسان ينهار بالتراجع. لا يوجد بعد حلة ابن نصار سوى مقبرة العود التي سيستقر فيها صامتا الى الأبد.
يقال ان الفن مرتبط بالحب وهذا يمكن استنتاجه من كلمات الأغاني. وفي الحب كان هو أفضلنا حظا. كان معشوق الصغيرات المتجهات بسرعة الى المراهقة. كان يغني تجاربه مع الحب ويتغنى بها أمامنا ويقلد كل الأغاني الجميلة. سمعت أغنية «عطني المحبة» من صوته أكثر مما سمعتها من صوت طلال مداح. سمعت سكة التائهين تنساب من بين أنامله كالنهر الخالد. عندما نتصارع على قلب فتاة صغيرة وتعرف هذه الصغيرة انه يجيد العزف على العود تتركنا وتمحضه تنهداتها. كنا نغتاظ منه. وهذا ما جعلنا نتخلى عن رأينا الحقيقي في قدراته. كنا نضطر ان نشيد به دائما حتى لا تفسر وجهات نظرنا بأن أساسها الحسد. نجاحاته الجانبية في الحب ظللتنا. دعانا مرة واحدة وأخيرة الى بيتهم الجديد في الخزان. تبادلنا السلام والنكات والشتائم والكلام الفاحش وحتى المزح بالأيدي كما يفعل عيال الرياض في الأزمنة القديمة، ولكنه لم يشر الى العود. وبعد ساعة أو ساعتين سأله أحد الأصدقاء ان يعزف أغنية «في سلم الطائرة» لطلال مداح، ولكنه رفض بحدة والتقط العود وغنى دون مقدمات أو تقاسيم، «خلاص من حبكم يا زين عزلنا ما عد لي في هواكم شف أو راده». لأول وآخر مرة أسمع في صوته شجناً. كان صوته وعزفه يخلوان من كل التكسرات القديمة. يتجه نحو الحب دون هوادة.
عندما أتذكر عزفه في ذلك اليوم أميل الى الظن ان المسألة كلها قائمة على خلل وجودي بسيط. كان بيتهم في العسيلة يطل على مجلب البقر. كأن روشنهم الذي نجتمع فيه ملحق تابع للمجلب. حتى في الأيام التي لا يكون فيها حراج تبقى أصوات البقر تجول بيننا صامتة نفاذة وكأنها رائحة علقت بالأثاث والجدران. كنا نجلس في روشنهم نتحدث عن الفتيات الصغيرات المحتشدات في باصات الرئاسة الصفر على خلفية ترانيمه على العود مختلطة بأصوات البقر. هذا هو الاستديو الذي تشكل فيه وجدانه الفني. ترى ما هو دور البقر في مأساته وخاصة مقتل الثور «طريسان» المحزن. هذا ما سوف نبحثه يوم الإثنين القادم.

فاكس: 4702164
YARA4U2@HOTMAIL.COM

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved