Saturday 9th March,200210754العددالسبت 25 ,ذو الحجة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الشيخ الدكتور سلطان القاسمي وجدارة الفوز الشيخ الدكتور سلطان القاسمي وجدارة الفوز
د. محمد بن عبدالله آل زلفة*

حينما أعلنت الأمانة العامة بجائزة الملك فيصل في شهر رمضان الماضي عن فوز الشيخ الدكتور سلطان القاسمي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لهذا العام، كنت وزملائي في الوسط الأكاديمي من أكثر الناس فرحاً بإعلان هذا النبأ، لأننا أكثر من غيرنا معرفة بهذا الشيخ ذي اللقب الرفيع، والمكانة العالية وهو بفوزه هذا قد أضاف إلى هذا اللقب لقباً أكاديمياً يضفي على مكانته السامية لقبا هو بكل حق جدير بحمله، وهو بفوزه هذا قد جمع ايضاً بين الحسنيين، المكانة العالية الرفيعة بين أقرانه الشيوخ، إذ ينتمي الشيخ الى احدى أعرق العائلات الحاكمة نسباً ومكانة في التاريخ، فلقد احتلت أسرة القواسم مكانة بارزة في تاريخ الخليج، وظل أثرها واستمرار تأثيرها ماثلاً بشكل شامخ في تاريخ منطقتنا الخليجية إلى اليوم.
إن ما أضافه الشيخ الدكتور سلطان لنفسه من مكانة متميزة بين أقرانه الشيوخ وهي ميزة التميز الأكاديمي لم يكن مظهراً ديكورياً، كما بفعل البعض، فالكبار في غنى عن المظاهر الزائفة، لأنهم كبار بذواتهم، كبار بأعمالهم، كبار بإنجازاتهم، كبار باحترام الآخرين لهم، وإنما يعكس شغف هذا الشيخ بالعلم والثقافة والبناء الحضاري الإنساني، وذلك منذ توجهه الأكاديمي الأول، وحصوله على شهادة جامعية في مجال الزراعة.
هذا التوجه المبكر في حياة هذا الشيخ ينم عن عشقه وارتباطه بالأرض واستصلاحها والاستخلاف فيها، فهي مهد البناء الثقافي والحضاري، ثم اتجه في تحصيله الاكاديمي الى حقل التاريخ، هذا المجال الذي يصفه البعض بأنه مهنة ارستوقراطية ينجذب اليها من له سماتها نصيب، ولكن الشيخ الدكتور سلطان لم يكن بحاجة الى تأكيد انتمائه الارستوقراطي، وانما جذبه الى هذا الفن اهتمام شخصي بدوافع عملية بحتة، وهذا العلم يحتاج الى كثير من الصبر والجلد، والبحث عن الحقيقة بشكل موضوعي وعلمي، فالتاريخ، اضافة الى انه فن، والبعض يرفعه الى درجة العلوم البحتة، فإن دراسته تعد مظهراً حضارياً فالتاريخ ليس كما يفهمه الجاهلون بحقيقته من انه لايعدو ان يكون تسجيلا لوقائع الحروب والكوارث وأنواع النوازل، بل إن التاريخ هو السجل الحافظ والواعي لكل مظهر من المظاهر الحضارية التي أنجزها الإنسان على مدى استخلافه في هذه الأرض منذ البدايات الأولى، حتى إن المقولة الشهيرة «إن التاريخ أبو العلوم» لم تبعد عن الصدق والحقيقة قيد أنملة، حقاً إن التاريخ أبو العلوم.
ثم من وعى دراسة التاريخ بعمق وحب كما فعل الشيخ الدكتور سلطان فإنه بدون جدال وعى أهمية الثقافة، وبناء قواعد الفكر ومراكز الحضارة في بناء الإنسان ذاته لكي يكون مخلوقاً حضارياً مثقفاً ومفكراً ومحباً للإنسانية.
أذكر أن تزامن وجود الشيخ الدكتور سلطان طالباً يحضر للدكتوراه في جامعة إكستر البريطانية المعروفة كان متزامناً مع وجودي طالباً أحضر للدكتوراه في جامعة كمبريدج، وكان اساتذتي وهم حينذاك من كبار المتخصصين في التاريخ، وتاريخ الجزيرة العربية بالذات يثنون على الشيخ سلطان وجديته في التحصيل، وحماسه المنضبط بالموضوعية للموضوع الذي يعد رسالته عنه، وهو عن تاريخ القواسم ودورهم في تاريخ الخليج العربي، وختم رسالته وكانت تحمل تقدير المشرفين والممتحنين الخارجيين، أثبت الشيخ بكل ما حشده من مصادر موثوقة ومعظمها إنجليزية يتم الكشف عنها لأول مرة على أيدي الشيخ سلطان نفسه، وكثير منها من أرشيف الهند المركزي الذي كان للشيخ فضل الريادة في نفض الغبار عنه، أكد بفضل هذه المصادر النادرة نفي التهم التي وجهها معظم المؤرخين الإنجليزيين وبكل أسف جاراهم من تأثر بهم، ونقل عنهم من المؤرخين العرب من أن القواسم حكومة وشعباً كانوا يمارسون القرصنة في مياه الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، وأثبت من مصادرهم مايثبت افتراءاتهم، فأحدثت تلك الرسالة حين صدورها وطباعتها في كتاب بعد شهور من مناقشتها هزة في الأوساط الأكاديمية البريطانية والغربية بشكل عام.
لم تكن مهمة الشيخ الدكتور سلطان لتنتهي بحصوله على الدكتوراه وتصحيحه لمفهوم خاطئ ألحق بالعرب والمسلمين ظلماً وعدواناً، بل قام ببناء مركز متطور للأبحاث التاريخية، في جامعة إكستر، وجلب له المصادر الموثوقة والمتنوعة لخدمة الباحثين في مجال التاريخ العربي والإسلامي، وإصبح هذا المركز بفضل جهد هذا الشيخ المثقف منارة لنشر الثقافة العربية والإسلامية الصحيحة.
وأكمل الشيخ سلطان رسالته الحضارية في بناء إمارة الشارقة بناءً ثقافياً حضارياً، فأصبحت جوهرة الإمارات العربية، ليس على مستوى الإمارات الخليجية فحسب، بل على مستوى الفضاء العربي بشكله الواسع، فلا أعتقد أن هناك بقعة في الوطن العربي تضاهيها اهتماماً بالثقافة، بل يمكن القول إنها بقعة نادرة في تاريخنا العربي حتى إبان فترة ازدهار الثقافة العربية في اجمل عصورها.
فالشارقة إمارة الثقافة العربية الدائمة، فبها من المتاحف والمكتبات والنوادي الثقافية والمسارح لعرض الثقافة مالا يوجد له مثيل في كل البلدان والعواصم العربية، ومعرض الشارقة للكتاب يعد من أبرز المعارض العربية وأدومها، ثم ماذا يمكن قوله عن جامعات الشارقة المتميزة في تنوعها وأبنيتها ومكتباتها وانفتاحها على الثقافات الأخرى انفتاحاً ثقافياً حضارياً خالياً من الإسفاف.
أما نافذة الشارقة على العالم العربي والإسلامي المتمثلة في فضائيتها المتميزة بين الفضائيات العربية الموغلة في التخلف باسم المحافظة على الخصوصية والهوية الثقافية، او المتطرفة في الإسفاف باسم التحضر والخروج عن المألوف، فكانت فضائية الشارقة نافذة الاعتدال والوسطية الذي نحن أحوج من نكون باتباعه.
لم تقتصر جهود الشيخ الدكتور سلطان الثقافية والحضارية على إمارته الشارقة فقط، بل مد يد العون والمساعدة لدعم المراكز الثقافية والحضارية على مستوى الوطن العربي، فله أياد بيضاء في دعم جامعات لها تاريخها في نشر الثقافة العربية الاسلامية في بلدان المغرب العربي، ودعم مراكز البحوث التاريخية في تونس، مثل مركز التميمي للأبحاث التاريخية في زغوان الذي يعد أبرز المراكز الفردية في الوطن العربي لخدمة تاريخنا العربي وتاريخ الإسلام والمسلمين في الأندلس، ذلك التاريخ الذي كدنا ننساه، فأحياه التميمي وبمساعدة الشيخ القاسمي، وكوكبة من الخيرين الغيورين على تاريخنا العربي والإسلامي، أذكر منهم سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز.
كما دعم الشيخ الدكتور القاسمي اتحاد المؤرخين العرب في القاهرة، ودعم إحياء المتحف الزراعي في القاهرة، ودعم كثيرا من المراكز والمكتبات في مختلف ارجاء الوطن العربي، وأنفق على ترجمة الموسوعات العربية الإسلامية ونشرها، وكذلك على مراكز البحوث والدراسات الإسلامية في الجامعات الأوربية.
كما أن له جهوداً كثيرة لاتعد ولا تحصى في خدمة التراث العربي والإسلامي في أصقاع كثيرة من العالم، ولما ذكرناه، ولجوانب كثيرة يصعب حصرها امتدت لها يد الشيخ الدكتور سلطان القاسمي بالعطاء فقد فاز الشيخ الدكتور بجائزة الملك فيصل العالمية التي تثبت مصداقيتها في حسن الاختيار حينما يكون الفائزون بها في المجالات الإنسانية وخدمة الدين والتراث على غرار الشيخ الدكتور سلطان القاسمي.

* عضو مجلس الشورى

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved