جورج سنتيانا (1863 1952 م) فيلسوف بعد فوات الأوان!
كان سنتيانا الولد الوحيد لأمه من زوجها الثاني، اما إخوته الثلاثة غير الأشقاء فكانوا يكبرونه كثيراً، لذا لم يشعر بمعنى الأخوة ولم يعرف رفاق اللعب، كان وحيداً لا يخالط احداً من الجيران، ويقول عن تلك المرحلة «لم أكن أمارس أي لعبة، بل كنت أقضي طيلة مابعد الظهر والمساء في القراءة او الرسم».
وحين بلغ التاسعة من عمره انفصلت امه عن زوجها الثاني ايضاً ورحلت باطفالها الى مدينة بوسطن الامريكية هذا الرحيل المبكر ترك اعمق الاثر في نفسية سنتيانا الصبي، فلقد ترك والده قبل ان يعرف معنى الأبوة، وانقطعت صلته بوطنه اسبانيا قبل ان يدرك معنى الوطن، فأحاط نفسه بسياج من العزلة والتأمل، ولم يندمج مع زملائه في مدرسة بوسطن، كان يراقبهم وهم يهبطون درج المدرسة «كأنهم الرعد.. أو كأنهم كتلة من الجليد تهوي من قمة الجبل» مكتفياً بدور المشاهد لألعابهم وصخبهم.
وعندما التحق بهارفارد استمر في اقامة سياج العزلة وصقيع التحفظ حول نفسه، ونأى عن الاشتراك في العاب الكلية رغم اعجابه الشديد بكرة القدم الامريكية، الا انه لم يهبط ابداً حومة الملعب! فقط كان يتأمل من مقاعد المتفرجين تتقمصه روح الشاعر وهو يشاهد لتنافس وحدة الصراع.. وفضائل البطولة مصغرة، على حد تعبيره، عن طريق هذه المشاهدة المبكرة كان يستعيد بهجة بسيطة لطفولة لم يعشها وذكرى حلم قديم.
يتأمل الامريكان وهو يشعر في قرارة نفسه انه ليس امريكيا، بالتأكيد تسع سنوات من الطفولة لاتكفي ليقول عن نفسه انه اسباني ليس كهؤلاء الامريكان الذين يلعبون كرة القدم ويغشون المسارح ويلتفون حول موائد العشاء ويراقصون السيدات، فهو لايملك هذه الجرأة والحيوية، لكنه حتما يجلس بالقرب من هذا العالم الصخب كمستمع رقيق او كمتأمل في هدوء يستكشف عناصر الجمال فيما يرى ويسمع.
هذا الهادئ المتباعد لم يجد حلبة يتباهى بها على اقرانه سوى حلبة الكلام، فطالما انه لايستطيع ان يراقص الفتيات مثلهم فلا بأس من ان يسحر آذانهن بكلامه «الفلسفي»! كان مقتنعا ان سيدات بوسطن اكثر ثقافة من رجالها ولهذا يقول: أنت على موائد العشاء تتحدث نصف ساعة الى السيدات.. ونحو عشر دقائق الى الرجال.. فاذا انتقلت اخيراً الى حجرة الاستقبال كان في وسعك ان تختار السيدة التي تريد ان تتحدث اليها، على هذ النحو كان يركز سنتيانا منذ اللحظة الاولى على اختيار المرأة التي سيتكلم معها بعد العشاء ظنا منه ان المرأة في بوسطن على الاقل مستمعة بارعة!
الغريب ان رغبته في اثبات ذاته امام السيدات في فن الحديث والحوار انعكست سلبا على علاقته باساتذته الكبار امثال جيمس وبالمرور وليس فكان يرى ان عقله انضج من ان يأبه للتعاليم الاولية لاساتذة هارفارد الكبار وكان قليل الاجلال لارائهم وربما لآراء اي رجل مهما كانت مكانته، فعندما التقى بوالكوت حاكم ماشوسش عقب في نبرة ساخرة ومتسامحة «كنت اتوق الى لقائه، لكن خاب رجائي فيه، فانه لصاحب عقل يمكنه من تكوين الآراء، لكنه لايكفيه لتكوين الآراء الصحيحة».
بالطبع لايعني هذا ان سنتيانا يعتقد ان قدرات عقل المرأة تفوق الرجل حتى لو كان استاذا في هارفارد او حاكما على ولاية، ففكرة المفاضلة والمقارنة لم تخطر بباله، وانما الحقيقي هو قناعة سنتيانا منذ شبابه الباكر بقدراته العقلية التي تجعله ينتقد اساتذته ومنافسيه اما اعجابه بالمرأة فلانها كانت مستمعة مشجعة لافكاره بالاساس، وكانت الحلبة الاولى التي اثبت من خلالها نبوغه كما ان المرأة بحدسها وتعاطفها كانت ملاذاً لشاب عاش منذ طفولته غريباً عن وطنه ومغتربا عن جذوره.
على ان الصراع الاكبر الذي عاشه سنتيانا طيلة عمره هو صراعه مع الدين وتناقضات ارائه حوله فسنتيانا كان فيلسوفا ماديا يؤمن بالملاحظة والنزعة العلمية، يمتلك عقلا متشككا وعنيداً وقلبا مؤمنا متواريا.
كانت عواطفه تتجه الى هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين يجسدون الضمير الحي للبشرية، انه رغم تصريحاته المادية كان في اعمق اعماقه مفتونا بهذا العالم الروحي، تتنازعه روح الشاعر وروح العالم، حتى انه جرب كتابة الشعر في بداياته الى جانب تدريسه للفلسفة بهارفارد بعد حصوله على الدكتوراه، وكان شعره حزينا حنونا مفعما بالاسى على العوالم القديمة والاحلام التي طواها النسيان فمأساته الكبرى في رأيه انه ولد بعد فوات الاوان في عالم كان يوليه احر الحب، لو انه جاء في الوقت المناسب انه ليس امريكيا ولا اسبانيا بحكم الدراسة والميلاد، وانما هو في اعماقه من الاغريق القدماء عقلا ومزاجا، يرى نفسه رفيقا لافلاطون او تلميذا مباشراً له، وعاش يتمنى ان يقضي حياته في حوار هادئ مع افلاطون، وارسطو وديموقريطس، وغيرهم من الارواح القديمة التي توافقه وتلائمه لكن القدر اضطره الى احتراف التدريس، واضاعة وقته في التحدث الى طلاب الكليات الذي لايجيدون الا نصات كتب في اوراقه «كنت دائما اكره ان اكون مدرساً ولكن هذه الكراهة لم يكن يستشفها احد ممن استمعوا الى محاضراته الواضحة القوية كان يقتعد كرسيه على المنصة بقاعة امرسون ويداه الشاحبتان مشتبكتان على المكتب، يعلوهما وجه شاحب، ولحية سوداد ذات طرف رفيع يسبغ على ملامحه روحا قادمة من بعيد، كان يتحدث بطلاقة وفي توقيع هادئ. يوجه سهام سخريته الى الاباطيل الكاذبة للعمل البشري، لكنه بدلا من ان يحطمها بمعوله يبدو مستمتعا بحماقات الجنس البشري، ولا بأس من ان يلتقي مع هزل الحياة المعاصرة من خلال الفرجة على مباريات كرة القدم، ذات مرة رآه احد طلابه بلحيته المدببة وعصاه وقبعته وهو يدخل مضمار اللعب، فهتف الطالب متعجبا «تصوروا ان افلاطون يهتف لهارفارد!».
كانت جولات قصيرة للغاية يقضيها مع تفاهة الواقع، لكن سنوات العمر كله منسحبة الى الوراء.. الى الماضي البعيد.. هجر الشعر الى الفلسفة، او بمعنى آخر اضفى على الفلسفة شعريته مازجا بين الافلاطونية وافكاره، فهو يرى ان الحياة والجسم والعقل والارض والسماء كلها آلات تتحرك بشكل آلي وليست حرة، فالعقل فيما يقول لايتحكم في الجسم، وانما هو مجرد مراقب يتأمل فحسب هذه الآلة ذات الحركة التلقائية، يرضى حينا ويثور حينا لكنه يبقى عاجزا، على هذا النحو يرفض فكرة الخلود فليس هناك على حد تعبيره امتداد لشخصياتنا بل مجرد تكرار لالفاظنا وافعالنا في هذه الحياة الدنيا على امل الوصول الى مثل اعلى.
هذا هو الاتساق غير المتسق في مذهب سنتيانا الفلسفي، فهو كمن يحلم واحدى عينيه مفتوحة، يريد ان ينفصل عن العالم دون ان يكون معه على عداء، يريد ان يمسك بالجمال المنقضي رغم ادراكه انه سحابة صيف تمر!!
عاش سنتيانا طول حياته بهذه الروح التي انفصلت عن الناس، فهو ليس ابا لاسرة، ولا مواطنا لاي بلد، ولا استاذا في اي مدرسة، خاصة بعد ان آلت اليه ثروة لا بأس بها جعلته يستقيل من هارفارد عام 1912 ويغادر الولايات المتحدة الامريكية قبل عام من نشوب الحرب العالمية الاولى.
انتقل هذا الفيلسوف الحائر من نصف الكرة الارضية الى نصفها الآخر كأنه يبحث عن عصر آخر لشاعر ضليل.. العصر الذي ظل دائما يؤمن بانتمائه اليه.. ربما اثينا.. وربما روما القديمة.. لكن ليست بوسطن او هارفرد.. وليس هذا الواقع التافه الدنيء.. يمضي كأنه شبح يزداد نبلا، يستأجر جناحا متواضعا في فندق لان شراء منزل في رأيه يستعبد الانسان، كان يخشى ان تستعبده غريزة التملك ويقول في هذا «انا سر أبي» فقد سأل اباه مرة لماذا يسافر دائما في عربات الدرجة الثالثة فأجابه الاب قائلا: لانه لاتوجد عربات الدرجة الرابعة! انه قانع بأقل الاشياء وابسط العادات، يستمتع باصدقائه القلائل وحين يكفون عن المجيء لايبحث عن احد ويقول مازحا «انني كالبابا.. أزار ولا أرد الزيارة».
تحرر من كل شيء، فبمقدوره الآن ان يجلس في معبد سكولابيوس يتأمل اطلال اصدقائه الاغريق ساعات طويلة، ويستطيع أن ينظر الى كساد كتبه في الاسواق وبعده عن الاضواء كأن الامر لايعنيه هذا الفيلسوف النابغ الذي لخص فلسفته في الجمال في كتابه الشهير «الاحساس بالجمال» وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، واصبح بهذا الكتاب وحده اهم فيلسوف في فلسفة الجمال بعد افلاطون، يجلس الان بين اطلال اثينا يحدق في هدوء متفلسف في هذا المشهد غير المعقول الذي يسمى «الحياة».
كتب في احدى مقطوعاته الغنائية «ما أسعد ان تكون مع الاشياء على وئام» وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية قال «كلما اطلنا التفكير في العالم عدنا بلا ريب الى افلاطون.. لا حاجة بنا الى فلسفة جديدة، بل نحن بحاجة الى الشجاعة في ان نعيش مستمسكين باقدم المثل واحسنها» من يتصور ان هذا العقل الفذ الشجاع رغم ماديته قضى سنواته الاخيرة في احد اديرة روما يعيش عيشة الترهب منذ اشتعال الحرب بين نصفي الكرة الارضية.. ترى هل وجد في الدير حلاً لمأساته ام ان العقل الكبير قرر ان يستسلم؟!
|