الموت هو مستقبلنا.. لماذا نهرب منه؟؟.. قد تكون هذه العبارة هي الاطار العام لرؤية الأديب والكاتب محمد برادة في تفاصيل روايته الجديدة «امرأة النسيان» عن دار الفنك الدار البيضاء المغرب .. ط1 2001م.
الرواية تأخذ شكل المكاشفة الحقيقية بين الراوي وشخوص العمل في اطار هذه الرؤية الحادة للموت والتي قالت كلمتها على لسان «ف. ب» وهي المرأة التي خرجت من طيات رواية الكاتب برادة «لعبة النسيان» لتستقبله في كل مكان من أرض المغرب بعد هجرتها مع الراوي إلى باريس والعودة منها محملة بالشوق المخادع، والأوهام والشعارات التي مازالت تردد، وتستعاد في كل حين.. ليبقى الموت هو الحاضن الرئيسي لفاعلية الأحداث التي تدور في الرواية وكأن هذه المطارحة السردية كشف حساب يقدم «البطل، الراوي» لمن حوله من شخوص هجر بعضهم إلى المنافي وهاجروا مكرهين إلى البعيد لتلتقي حاجة برادة للبوح مع حاجتهم لمقاومة إغراء الحنين إلى وطن ما زال يستقبلهم مناضلين يعرفهم التاريخ جيداً.
المرأة في هذه الرواية تأخذ شكل الشاهد الوحيد في قضية الراوي مع من حوله.. هذه الأنثى التي تستسلم للعزلة وتنتظر الموت هي في الأساس المتهمة في تعقيد حياة الرجل.. بل انها حقيقة عذابه كما يصفها السياق السردي في الرواية.. إذ تحمل هذه المرأة «ف.ب» لغة متعالية لم يستطع الراوي أن يثبت زمام مزاعمها، ورؤيتها للحياة من حولها، ليصبح الكاتب معانداً قوياً.. يحاول ما وسعته المحاولة أن يجاري مطارحات هذه الأنثى التي تقاوم الموت وتعاند العزلة وتكبر فوق الجرح لعلها تفوز بقصب السبق في هذه المتاهة المعاندة المسماة الحياة ومن خلفها الموت هذا الحاضن القوي الذي لا يقف بوجهه أي كائن.
* علائق الذات.. أوهام خادعة
في رواية «امرأة النسيان» يستعيد الراوي تفاصيل الحياة في فترة الاستقلال وما صاحبها من تكوين نفسي خلق من أهل المرحلة أمثولة مناسبة للحديث والبوح بما لدى أهلها من أوهام خادعة تسببت في بناء مرحلة قاصرة النمو، ودون المستوى المطلوب.. بل انها وفق مطلوب آخر يهيل على طهارة الجهاد، والنضال شيئا من الضلال غير المحبب.. ذلك الذي لا يزيد الانسان إلا آلماً وحسرة على مآل تلك الأحلام الأسرة.
تكونت الذات في بناء القص على هيئة أمثولة قوية صنعتها تلك الأصوات والرغبات المكتظة بالقوة، والمثابرة إلا أن هذه الأمثولة أخذت هيئة الذات التي تعذب ذاتها، وتكتوي ذوات من حولها بالعديد من المثبطات والخيبات والأحزان حتى أضحت علائق الذات أوهاماً خادعة لا يمكن أن تكون مجدية في زمن هذا التحول الذي يراه الكاتب بأنه جاء وفق معطيات خاصة لا يمكن أن تحطب بحبل هذا الأمل في قيام واقع أفضل. يضفي الكاتب محمد برادة على هذه المحادثات الطويلة شيئاً من تصفية الحسابات القديمة، وجني أرباح وثمار تلك الطروحات التي قدمها من قبلهم في محاولة منه أن يكون القارئ على بينة من هذه العلاقات التي تشابكت، وتداخلت حتى جاء بعضها على هيئة أحلام عريضة، يؤكد الراوي وهو يصفها بأنها «أحلام مشروعة» وتحقيقها لا يأتي بين يوم وليلة إنما تحتاج إلى عقود من الانتظار.. «الرواية ص 46 و47».
* مأزق الأسئلة.. ألغاز بلا حلول..يمتطي الراوي / الكاتب في سيرة البحث الطويلة عن ملاذق آمنٍ لأحلامه المؤجلة منذ أن هجر الوطن ذاهباً نحو تلك المنافي اللامعة.. لكن ذلك الملاذ أصبح فضاءً مكانياً قاتماً وموحشاً لا ينفع إلا للغرباء الذين يأتون باحثين عن المأوى لأجسادهم وليس لأحلامهم.. من هنا يقع «الراوي» السارد للأحداث والحكايات في مستنقع العودة إلى الوحدة الخانقة في هذه الأماكن التي لا تعرف وجوه أهلها.. لتصبح الأسئلة حوله وحول أحداثه في المأزق الحقيقي.. بل انها تحولت إلى مجرد ألغاز يصعب الاجابة عليها.
تتجسد الأسئلة على هيئة مقابلة بين الراوي و«ف.ب» لتبدأ من السؤال عن الحال التي لم تعد تطيق الواقع، وعن العقل الذي لا يسترشد بأي فكر يمكن أن يصنع الحلول لهذه الأزمات والتحولات التي عصفت بالأمة.
الذات هي الحالة التي تمتلك التفاصيل الدقيقة والخفية عن كنه هذا المآل الذي ذهبت إليه هذه الأجيال منذ عقود خمسة يستعيد الراوي تفاصيلها بين لحظة وأخرى.. حتى ان هذه «الذات» الشقية صاغت في أعماق وجودها العديد من الأسئلة المحيرة والمشككة في مغزى هذا العذاب اليومي المسمى الأمل..
وإزاء فعل كهذا يحاول «محمد برادة» ومن خلال هذا العمل السردي أن يقترب من هذه الخصوصية التي تتمتع بها المرأة بوصفها كائنا شديد التأثر بمعطيات المجتمع وتحولاته موجهاً في هذا السياق سهام نقده للواقع المرير الذي يعيشه الرجل أيضاً من خلال تخبط هؤلاء الرفاق أو المناضلين في الخنادق القديمة.. تلك الحفر التي لم تزد إلا هذه الأسئلة غموضاً، وضبابية لتكون الحالة العامة أشبه بالمأساة أو الكارثة التي تتجدد يوماً بعد آخر.
* تفاصيل العزلة المديدة:
العزلة للمرأة، وللرجل همومه اليومية.. وناتج هذه المكابدة حالات اكتئاب تعيشها «ف.ب»،وفراغ روحي يعيشه «سي الراجل» ويثقل عليه حتى يهرع إلى العبث والطيش والتهور والهرب نحو عوالم سحيقة من الأوهام والأحلام والمشاريع الخادعة.. تلك التي ساقها «الكبار» طعماً للصغار ليكتوي البسطاء بنارها، ويدفعوا ثمن صدقهم، وتصديقهم لتلك المقولات الجوفاء.
العزلة ل«ف.ب» هي الرابط الطويل لهذه المشاهد المألوفة والمكررة لعالم لا يعرف من هذه التحولات إلا مصائبها ولعناتها.. فالمرأة هي ضحية هذه المعادلة الصعبة والمستحيلة بين «المستقبل والمجهول».. فأول المعادلة وهم وثانيها شلل لا يمكن الشفاء منه.. فأي حل من خلال هذا الشعار هو محاولة لا يمكن أن يُكتب لها النجاح على الاطلاق.وحده الأمل هو السلاح الذي يمكن أن يقتص به من هذا المارد العصي المسمى المجهول ذلك الذي يتربص بنا ويحيك خيوط شراكة حول عنق أملنا في الخروج من مأزق تصديق بعض الشعارات الكاذبة تلك التي تصوغ من الوهم خدعة جديدة قد يقع بها هؤلاء البسطاء..يقف السرد في هذه الرواية على حدود النهاية.. إذ تموت الشخصية المهمة في العمل «ف.ب» بعد عناء مع المرض والوحدة والكمد الذي حل بها بعد رحلة البحث عن أحلام ضبابية متناثرة، ليقف القارئ على خلاصة تجربة جيل كامل من أبناء المغرب الذين حلت بهم معاناة البحث عن الذات.
إشارة:
* امرأة النسيان «رواية»
* محمد برادة
* نشر الفنك المغرب.
* ط1 2001م
|