المضمون التعبيري في القصيدة عنصر متبدل، لا يخضع للثبات، إنه متغير باستمرار، وهذا التغير يأتي مع تقوض المدارس الشعرية، وتبعاً لأحوال العصور التي يولد فيها الشعراء. والمذاهب الأدبية خصت عنايتها بالمضمون أكثر من الشكل، لأن الشكل مجرد قالب لحفظ المعنى واختزانه، فالشكل قشرة، والمضمون لب.
ولو تأملنا زمن الشعر وراقبنا حركته لوجدنا أن المضمون أسرع وأكثر في تغيره من الشكل، وذلك أمر بدهي، فمضامينا تتبدل بمراحل تفوق فيها تبدل أشكالنا، وتبقى حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أن المضمون الشعري قد يموت، وقد يبعث من جديد، أما الشكل الشعري فهو ضد الموت، لأنه يتناسل حسب عبقرية الشعراء وفحولتهم.
والشاعر اليوم فقد مكانته ودوره في المجتمع، فلم يعد ذلك السيد المهاب، الذي يفسح له في المجالس، وتُنحر له الذبائح، وتُمد له الموائد، وتقام له الأعراس، وتحفظ القبيلة أو القبائل شعره، لقد تهمش الشاعر، واتجه بدوره إلى المهمش، إنه الآن هامشي يكتب عن هامشي.وقد حدث هذا بسبب آلة الإعلام القوية المهيمنة، التي لا تكف رحاها عن مصادرة حقوقه، وسحب المادة الخام من بين يديه وأمام عينيه، فهي الناطقة أولاً وبسرعة، وهو المعبر تالياً وبكسل.
هذا الصراع غير المقصود بين الجهاز التقني والجهاز الشعري في الظفر بالمادة الخام جعل الأخير يلجأ إلى اليومي التافه غير المطروق، بعدما عانى من نضوب المادة الشعرية الطازجة، وبرز لديه الشح في التقاطها.ونتيجة لهذا الصراع بدأ المضمون القديم يتهاوى، ويخرج من بناء القصيدة، فالطبيعة الرومانسية الحالمة، والأنهار اللازوردية، والبلابل الصداحة، والورود الفواحة، ونجوى الليل المرسل نسائمه، كلها خرجت من البناء مع خروج الشعراء من خيمة الرومانسيين، وحلت محلها الواقعية التسجيلية حين جلس الشعراء في المقاهي، ومشوا على الطوار يفتشون عن خامات غير مطروقة.
والمرأة المرفهة المدللة، ماء الشاعر، ومادته الأثيرة، فقدت تربعها على كرسي قصائده، وهجرتها صوره، لقد انسحبت إناث الشاعر من قصائده بهدوء المهانات المطعونات في أنوثتهن، فبعدما كانت المرأة الجميلة تعتقد أن الشاعر قد خُلِق ليذيع جمالها، ومفاتنها، ويرضي غرورها، وغرائزها الفطرية، ويتحدث عما تخلفه في نفسه من أثر، صارت موضوعاً ممجوجاً في قصائده ولديه، ونقطة ضعف في مضمونه.
الجوعى، المرضى، التعساء، المناضلون، المأزومون، المتعبون، المحبطون، السود، المستعبَدون، الفقراء، كلهم يدخلون بناء القصيدة ويشغلون المقاعد وحدهم، إن المضمون أمسى لهم، وما عداهم من أضدادهم فلا مكان لهم عند شاعر قصيدة النثر.
إن شاعر اليومي يتناول هذه الكائنات المعطلة، ويعادي موضوعة المدح، إنه يراها فعل نفاق يبطل طهارة قصائده، ويلغي ديموقراطيتها، فهو باختصار شديد ينبذ الطبقية.
وشعراء قصيدة النثر اشتغلوا على موضوعات عدة، فمنهم من اعتنى باللغة في القصيدة، ومنهم من شُغِل بالغموض كجزء من فنية القصيدة، ومنهم من تقعر في الإيقاع ليكون نظاما هندسياً مقنعاً للقصيدة، ومنهم من ابتغى اليومي وتخصص فيه.
|