1/4
قضية الامة العربية والإسلامية على مدى عمرها الطويل، تمر بحالات حرجة من الاشتعال والخبؤ، تحركها الكلمات، مثلما تحركها الحجارة، وقد تتحرك بفعل أزيز الطائرات، ودوي المدافع، وقصف القنابل، وفي العمليات الانتحارية، والفعل العنيف ورده الأعنف. وكلما خبت نارها المضطرمة في النفوس أو في الشموس، بعث الله من يزيدها سعيرا، او يحولها برداً وسلاماً، فإما أن يتقدم بها إلى أتون المعارك، أو يجنح بها الى مرافىء السلام. والشعب الفلسطيني الصابر المحتسب تشرئب أعناق مقهوريه كلما لاح بارق في آفاقه المكفهرة. ومع كل البوارق الخلَّب فالقضية في حال لاتسر، والوضع القائم: عربيا وإسلاميا وعالميا لا يمكن ان يتمخض عن حل يحقق الطموح والتطلع، وعلى الرغم من كل الترديات والتحفظات فإن القبول بالوضع القائم مؤذن بفساد كبير، فهو وضع على فوهة بركان يقذف حممه، وقوده الشعب الفلسطيني الذي يتجرع الخوف والجوع والذل، ويتعرض لنقص في الأنفس والأموال والثمرات، بلغ ذروته بفرض الإقامة الجبرية على رئيس الدولة. ولأن المستقبل غيب لا يعلم كنهه إلا الله، فإن انتظار ما لا يأتي مضيعة للوقت والجهد والمال، والأمة في ظل هذه الظروف العصيبة بحاجة إلى منقذ، وحين لا يكون بالإمكان تحقيق الأحلام فإن الحلول المرحلية توقف النزيف والاستنزاف، والمتابع لتاريخ القضية يقف على محطات مصيرية وفرص نادرة، فوَّت بعضها العناد، وقضى على بقيتها المكر والخداع اليهودي والتفكك واختلاف وجهات النظر العربية، وأخرى من المحطات لا تتجاوز التحرف للإنقاذ وإيقاف التدهور ، والطوية الحسنة التي كان يضمرها صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز، والتي جاء اكتشافها بالصدفة على يد الصحفي الأمريكي اليهودي (توماس فريد مان) وسميت تجوزاً (مبادرة) تأتي في سياق (الإنقاذ)، و(إيقاف التدهور) وزحزحة الأرجل، لتأخذ خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف، كي تتجاوز بؤر الفعل العنيف والرد الأعنف، فالقتل والقتل المضاد، وهدم البيوت، واقتلاع الاشجار، وكسر العظام، وحرق الأرض، ليست في صالح المستضعفين. ومن يشاهد الحدث، ويعد الشهداء بأصابعه ليس كمثل من يصنعه ويموت، ولأن هاجس المنقذ لما يزل حبيس مكتبه على شكل مقترحات بانتظار القمة وانكشاف الغمة، ومن المتوقع إجهاضه بفعل (شارون) المتوحش، فقد ألحت كل الأوساط لتحويله إلى (مبادرة) ثم الصعود به إلى (مشروع) عربي مشترك. ولم يكن اختلاف الآراء حول المبادرة هو السبب في استئثارها بالصدارة. لقد تلقفتها وسائل الإعلام العربي والاسلامي والعالمي، وفرغت لها المنتديات والمطابخ السياسية، وجاءت ردود الفعل بين التفاؤل والتساؤل. والمحللون السياسيون الرسميون والمحترفون: الأحرار والمأجورون، انتابوها، وكأنها مشروع صاغته أطراف متعددة، وما هي في حقيقة الأمر إلا رؤية أو مقترحات كتبت بالحروف الأولى، وحفظت لوقتها وظرفها المناسبين، ولا أحسبها مشروعاً مكتمل الإعداد. والقنوات الرسمية في المملكة التي يقف الأمير عبدالله على فوهاتها لم تقل شيئاً حيال نهائية المبادرة، إذ هي لا تتعلق بقضايا محلية، ولما يتفق عليها مع المعنيين. ولأنها مجرد رؤية من إنسان يحمل هموماً كثيرة، فقد قوبلت بتفاؤل كبير، وتنازعتها محافل: أوروبية وروسية وأمريكية. والأهم من كل ذلك أنها تسربت نتيجة إثارة صحفية ذكية، وجاء احتفاء (النيويورك تايمز) الصادرة في 17 فبراير 2002 محركا أقوى للجادين والفضوليين، ولو قدر لها أن تتحول إلى خطاب عربي مشترك فإنها مشروطة بتحولات جذرية في السياسة العدوانية الإسرائيلية، ولا أظن إسرائيل ستقبل بتهيئة الأجواء الملائمة لها، وفق تطلعات الأمير، وفوق ذلك فإنها على مفترق طرق بالنسبة للمرجعية المتنازع عليها، بين الإسلامية واليهودية وسائر الايديولوجيات العربية. ولست أشك أن الأمير عبدالله في ظل الظروف الضاغطة والمتوترة أراد أن يخرج الجانب المتغطرس، ويضعه في الزاوية الضيقة، لأنها في الجملة استدعاء لقرارات شرعية، التزم بها العرب، وتملصت منها إسرائيل، وفتح لملفات حفيت أقدام الوفود العربية من تداولها. ومقاصدها النهائية إحياء مفردات ورؤى طرحت من قبل في أوقات مختلفة، وفي ظروف مغايرة، ولما تؤت ثمارها المرجوة، لتعاقب الحكومات الإسرائيلية المعولة على المماطلة واستغلال الوقت، ولربما كانت (انتفاضة الأقصى) وأحداث سبتمبر أجواءً ملائمة لمثلها.
2/4
ولأن القضية همّ القادة فإن المبادرة بكل ما اكتنفها من مداخلات على أعلى المستويات مسبوقة بمبادرة في ذات السياق، وبذات المفهوم، ومن ذات المؤسسة، ولكنها جاءت في ظل ظروف مغايرة، فبين قمة الرباط 1981 وقمة بيروت 2002 اجواء متباينة، فلقد كانت للملك فهد حفظه الله مبادرة معروفة، دخلت عالم المصطلحات السياسية باسم (مبادرة السلام) عام (1981) وأخذت وقتها بعداً إعلاميا، وتداولتها المحافل السياسية، ولكنها اختلطت بمبادرات متعددة، واكتنفتها رؤى متنوعة، وتحولات سياسة. وتجيء مبادرة الأمير عبدالله بذات القوة والفاعلية، معززة بمواقف سموه المحرجة للحليف الأقوى للمملكة والمساند الأقوى لإسرائيل، إلا ان الظروف الحرجة عربيا وإسلاميا وعالميا، قفزت بها من حروفها الأولى الى مشروع، وكم هو الفرق بين (المشروع) والتفكير في تقديم مقترحات لمؤتمر مرتقب. والأمير عبدالله يعرف جيداً أنه ليس اللاعب الوحيد على مسرح الأحداث المصيرية، ويعي حدود ما له وما عليه، يتمثل آداب الحوار وشروطه، ويعرف أهليات المؤتمرين، ومقدار حقهم، وضوابط تداول القضايا المشتركة، ويعرف موقعه في سلم القضية، ومن ثم لا أحسبه حفيا بهذه النقلات البعيدة، المدعومة بثقله على كل الأصعدة، وبالوقت الحرج الذي يتلهف لمثلها، ولأن مبادرته لما تزل في مرحلة جس النبض، ورصد ردود الفعل، فإنها لم تأخذ شكلها النهائي، ولم تكن ورقة رسمية لا باسم المملكة، ولا باسم الأمة العربية، ولا باسم الفلسطينيين، ذلك ما يتبادر من الملابسات، وقد تكون هناك ترتيبات غير معلنة، اسرَّها الأمير في نفسه، ولم يبدها، أتمها عبر قنوات متعددة، لا يعلمها إلا العالمون، والمبادرة بهذه الاحتفالية، وبالتوقيت الدقيق، وبوزن صاحبها ستكون مسرحا للتنبؤات وتجريب الإمكانيات، وقد يكون القول فيها وعنها من الرجم بالغيب، وحين تكون حدثاً مؤثراً فإن من حق المعنيين تداولها وفق رؤاهم غير الملزمة وغير النهائية، وسيظل المعنى في بطن الشاعر. وأكاد أجزم أن سموه حين سربها، كرد على سؤال الصحفي الأمريكي الذي حمَّل الأمة العربية مهمة التقدم برؤية تنقذ الموقف لم يكن يتوقع أنها ستكون حديث الأوساط العربية والإسلامية والعالمية، ولو أنه عرف حجم التطلع العالمي لحبرها تحبيراً، وطرحها في خطاب رسمي، وعبر قنوات الأمة العربية. ولعل من لطائف المحللين السياسيين الاشتغال ب (التوقيت) دون البنود، لأهمية الظروف القائمة، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتورط أمريكا في مواجهة الإرهاب، وتولي كبر مطاردة الأشباح، ولأن المبادرة لم تنطو على بنود ليست متداولة في مبادرات سابقة، فقد ربط المحللون المثير (بالوقت) و(بالشخصية) فأمريكا تمر بمرحلة حرجة، وأوضاعها السياسية، والاقتصادية والعسكرية، تنذر بالخطر، وهي بحاجة إلى من يفتح لها الطريق للخروج من مآزقها المتعددة والصعبة. والمبادرة ربما تفك الاختناق، وتكسر الجمود، وتوقف التدهور في سمعة القطب الوحيد. والغريب في الأمر أن تلقف الإعلام الأمريكي لها، لم يكن تلقفا استهلاكياً، إنه تلقف متلهف، متفائل، تلقف المحلل والمقوم والمحرض على عدم تفويت الفرصة. وإذا افترضنا أن المؤسسة السياسية في أمريكا غير راغبة في إطلاق المبادرة في هذه الظروف وبهذا (الحجم) فإن الإعلام الامريكي هو الآخر قد وضعها في موقف حرج، وذلك حين بادرت الصحف العملاقة التي لم تكن تأبه بالخطاب العربي فخصتها بافتتاحياتها، وهذا مؤشر اهتمام شعبي، وليس مهما أن يكون رسمياً، ذلك ان الرأي العام الأمريكي يوجه المؤسسة السياسية، حتى لقد خرج بوش معلنا ترحيبه وتفاؤله، كما بدأت الرحلات المكوكية بين (الرياض) وعواصم العالم، ويقال مثل ذلك في إسرائيل فقد جاءت إشارات متعقلة على ألسنة المعارضة والأحزاب الجانحة للسلم، وتوجهت لجان إسرائيلية وفلسطينية الى (روسيا) لدراسة المبادرة، كما جاءت تحذيرات من مراقبين إسرائيليين ركزوا علي خطورة خروج المملكة من سياسة الضغوط الكواليسية إلى الطرح المعلن. فالعمليات الفدائية التي استهدفت (دبابات) الجيش الإسرائيلي، وهزت الثقة بها، وأوقفت صفقات التسليح معها، و(تمرد ضباط الاحتياط) وخطاب (شارون) الذي قوبل بامتعاض شديد وسخرية مرة، كل ذلك هيأ الأجواء لتلقف مبادرة عربية ذات وزن ثقيل.
3/4
والأمير الذي جاءت مقترحاته كفلق الصبح دون مقدمات أو
توطئات، جعل الكرة في شباك الجامعة العربية، ومؤتمر القمة، لتحويلها من صفتها الفردية إلى مشروع جماعي، يأخذ طريقه الى منظمة (الوحدة الأوروبية) التي تحس أنها بمعزل عن القضايا المصيرية، ومن ثم إلى رعاة السلام المتخاذلين أو المنحازين، وحين تتقدم الأمة العربية بالمشروع تضع كل الأطراف: أوروبياً، وأمريكياً، وإسرائيليا، في مواقف حرجة، تحملها على القبول المطلق، أو المشروط، أو طرح مشروع مقابل، يضطر معه العالم الحر بكل مستوياته: الحيادية، والانحيازية، الى الموازنة، والنظر في عدالة الخطاب، وحين يفشل المشروع فإن آثاره سلباً أو إيجاباً ستكون في صالح الأمة العربية، لأنه مشروع عادل، بل هو إنقاذي، روعيت فيه مصالح كل الأطراف، والسياسة الواقعية الهادئة تفوت الفرص على الخصم، لأنها الأقدر على الإقناع والاستمالة والتعاطف، وإسرائيل ستجد نفسها أمام دولة تحترم العهود والمواثيق، وتمتلك عراقة سياسية وتفاوضا لا تخادع فيه شعبا ولا أمة، ومبادلاتها يداً بيد، وإسرائيل لا يلائمها هذا الأسلوب. والمتتبع للمبادرة يجدها تقوم على محور رئيس، هو (الأرض) مقابل (السلام) المستتبع (للتطبيع) فيما تقوم مراوغات إسرائيل على مبدأ (الأمن) مقابل (السلام)، المستتبع (للتطويع)، والذي يجهض مع كل حكومة جديدة. ومبادرة الأمير فرصة نادرة لكل الأطراف، فإسرائيل سوف تلملم مشروعها الدموي التأديبي التطويعي الفاشل، وستحصل على مشروعية الوجود من دولة إسلامية تتصدر العالم الإسلامي، وقد ظلت الى الآن المتمنع الوحيد الذي لم يعط إسرائيل أي فرصة للاختراق، ومع أن ثمن التمنع باهظ التكاليف فإن الخطاب الإعلامي المناوىء أو المأجور يضربان عنه صفحا، وقد لا يكون لعدم مشروعية الوجود أثر في المنظور القريب، ولكن المستقبل بيد الله، والأمة العربية بنجاح هذه المبادرة توقف حرب الاستنزاف، وراعي السلام يحسن صورته المتشوهة. والذين ربطوا أهمية المبادرة ب (التوقيت) أو (بالشخصية) أو بهما معا ولم ينظروا إلى بنودها إنما يحيلون الى مواقف المملكة الرسمية التي لم تتبدل، ولن تتبدل، وهي مواقف تكتسب مشروعيتها من الإسلام، والمتابعون للكلمة الرسمية التي وجهها إلى الحجاج خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين يدركون ثبات الموقف المتمثل بدعوة العالم الى العمل من أجل مصلحة الإنسانية جمعاء، وتحمل مسؤوليته الإنسانية بإيقاف العدوان الإسرائيلي عند حده، وحمله على تطبيق ما صدر من قرارات ذات شرعية دولية بشأن القضية الفلسطينية، ليكون ذلك انطلاقة لتحقيق سلام قائم على العدل والمساواة. وخطاب القيادة في (منى) تمحور حول ثلاث قضايا: تحقيق (الوسطية)، وإقامة (العدل) ومحاربة (الإرهاب)، ومبادرة الأمير عبدالله تستمد لحمتها من المحاور الثلاثة، فهي مبادرة (وسطية)، أخذت أفضل ما في المبادرات السابقة، وهي (عادلة) لأنها تضمن السلام لكل دول المنطقة، وهي (سلمية) لأنها تدعم كل الاطراف الى وقف العنف، والمصير إلى موائد المفاوضات.
4/4
و(التطبيع) الذي جاء ضمن مبادرة الأمير عبدالله، كان متداولاً من قبل تحت مفاهيم متعددة، وهو الآن يعود في مبادرة الأمير بمفاهيم أخرى، قد تحد من انفتاحه واحتمالاته الدلالية، وتقمع الطمع الصهيوني بتحويله من (التطبيع) إلى (التطويع)، وهو في مبادرة الأمير سوف يربك المشهد السياسي: عربيا وأمريكيا وإسرائيليا، لأن الأمير هو وحده الذي يملك تحديد المفهوم، ولا أظنه يقبل بالمفهوم الإسرائيلي، ولا ببعض الممارسات العربية على ضوء مفهومه الإسرائيلي. وتجارب (التطبيع) السابقة جاءت على مستويات عدة، أساء بعضها الى المصالح العليا للأمة، كما أحدث ريبة في نفوس كثيرة، واستدعى مصطلحات أخرى (كالهرولة)، فالمؤسسات السياسية فوجئت بالمصطلح العائم، ووقع بعضها في حبائل التغرير الإسرائيلي، وكل مؤسسة لها مفهومها المتفق عليه، أو المختلف حوله، والشعوب العربية لها مفهومها المستمد من التاريخ والواقع والمرجعية، ولهذا فإن اسرائيل ستظل حائرة بين إرادة المؤسسات السياسية وإرادة الشعوب العربية، وكل الاطراف المعنية ستعيش في حيرة امام التفسير القانوني لمصطلح (التطبيع)، وإسرائيل لاشك أنها ستكون الأكثر تشبثا بالمفاهيم والمقتضيات الواسعة، وهي قد شغلت المحافل السياسية بغنوصيتها، وأفقدت كثيرا من القرارات محدودية الدلالة والمفهوم، وذلك بسبب تفسيرها المتعنت لبعض الكلمات الحمالة. و(السلام) و(التطبيع) سيأخذان مفهوما آخر في مبادرة الأمير، ولهذا جاءت إحدى مقالات الصحافة الإسرائيلية تحت عنوان (انتبهوا للسعودية) ووصفوا تحرك الأمير العلني بانتصاب طرف سياسي جديد، كما ركز المستشار الإعلامي الإسرائيلي على الحذر في دراسة المبادرة، معللا ذلك بعدم توفر التفاصيل، لعلمهم ان مفاهيم جديدة ستصاحب مبادرة الأمير، ولن تكون في صالحهم، فالإسرائيليون كانوا يتأذون من تحركات السعودية خلف الكواليس وسيكونون أشد تأذيا بعد التحرك على المسرح، والأمير عبدالله حين طرح مصطلح (التطبيع) لم يشفعه بتفسير أو تحديد، لأن سياسة حكومته تملك رؤية خاصة لهذا المصطلح، وهي رؤية تختلف كثيرا عن مفاهيم عربية وإسرائيلية، ويبقى السؤال من يملك تفسير (التطبيع) وتحديد مفاهيمه ومقتضياته ومشمولاته وحوافزه، ومن يحدد المحظور والمباح في العلاقات مع إسرائيل: اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وسياحياً وإعلامياً. ان اسرائيل لها مفهومها المرفوض للتطبيع، وللأمة العربية مفاهيم متباينة، وأحسب أن المملكة العربية السعودية سيكون لها موقف أكثر تشدداً وأدق محدودية من أي دولة عربية، فهي دولة إسلامية لا بالسمة ولكن بالامتثال والممارسة، وإذا قبلت إسرائيل مفهوم التطبيع كما تراه المملكة فإنما تقبله لإنقاذ وضعها المتدهور، والذين طاروا بالمبادرة تصوروها كما المتداول، ومعاذ الله أن تكون كما هو. والتطبيع مصطلح متعدد الدلالات والحقول، ولم يكن متداولا بمثل تداوله بعد اللقاء التاريخي في المنتجع الريفي للرئيس الامريكي (بولاية ماريلاند) (كامب ديفيد( بين «السادات» و«بيجن»، تحت رعاية الرئيس «جيمي كارتر» خلال الفترة من 1517 سبتمبر 1978م والذي تمخض عن معاهدة «كامب ديفيد» وقد تضمنت إحدى الوثيقتين كلمة (إقامة علاقات طبيعية بين مصر ودولة اسرائيل) وتحولت كلمة (طبيعية) إلى مصطلح مستقل عرف فيما بعد (بالتطبيع) واستطاع الماكر اليهودي أن يعطي الكلمة أبعاداً دينية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، وسياحية، أثقلت كاهل المفاوض العربي، وأدت الى تعثر المفاوضات العربية الإسرائيلية، وأثارها الشارع العربي، حتى لقد خيبت التجربة الإسرائيلية في استغلال مفاهيم الكلمات المصطلحية وفق رؤيتها آمال الشارع العربي. ودولة اسرائيل أحوج ما تكون الى (التطبيع) حسب مفهومها له، ومتى قبل المفاوض العربي بهذا المفهوم اختلت موازين القوى، وسقطت ثوابت الأمة. ومن ثم فإن اسرائيل لن تكون سعيدة بطرح كلمة (تطبيع) في مبادرة الأمير عبدالله، لأن القبول بها سيعطي المصطلح دلالات جديدة، لن تكون لصالح اسرائيل والمبادرة سواء قبلت بها إسرائيل كما يفهمها المبادر العربي أم لم تقبل بها أخذت أبعاداً عربية وعالمية ستضطر معها إسرائيل إلى القول أو الفعل، وهي في كلا الحالين أمام تحد لم تكن تحسب له أي حساب، حتى لقد ارتبكت في المواجهة مُتخذة سبيل التحدي بتوجيه الدعوة للأمير بزيارة القدس، أو هي تماكرت بغباء لا تغابي، لتحويل المبادرة من التدويل إلى الثنائية، لجر قدم المبادر ليكون مفاوضاً وهو لا يملك حق الوصاية. بقي أن تتلقف الأمة العربية عبر مؤسساتها هذه المبادرة. وتلح في تحويلها الى مشروع عربي جماعي، يضع الاطراف الاخرى امام مسؤولياتها التاريخية والإنسانية. والمتعنترون الذين لا يريدون السلام، ولا يمولون الحرب، ولا يعرفون قدر أنفسهم، يطلقون (بالوناتهم) الفارغة، ثم يلوذون بالفرار، باتجاه ملاجئهم الآمنة المستقرة في أوروبا، يبيعون ماء الوجه بثمن بخس، واضعين أقدامهم في الماء البارد فيما يتململ الشجيون على صفيح ساخن. والمؤلم أن قنوات الإثارة الفارغة لما تزل حفية بمثل هؤلاء، تسرج ظهورهم كلما سمعت هيعة، لتشكل منهم قوة اعتراضية تزيد بها فقاعة توهجها السرابي، مستغلة ضعف الذاكرة العربية، ضاربة صفحاً عن تعايش الفعل معززة جانب الانفعال.
|