كونت كلمة العولمة حالة اجتماعية شديدة الشبه بتلك الحالة التي كونتها كلمة حداثة في الثمانينات، نفس الأجواء التوجس نفس الريبة مع انعدام في وضوح المصطلح واختلاف في تفسيره، حتى انتهى بهما الأمر ان تتحولا الى مادة صحفية ترعب القراء وتسليهم في الوقت نفسه.
وإن كانت الحملة ضد الحداثة في الثمانينات اتخذت طابعا «قرن أوسطيا» على مستوى العالم العربي من حيث الدعوة الى التصفية الفكرية والجسدية لكل من اتهم بالحداثة على اعتبار بأن الحداثة كانت نوعاً من الهرطقة والتجديف العقائدي الذي يجب ان يحارب بكل الوسائل الممكنة، إلا أن العولمة اتخذت طابعا أقل حدة لربما لكون تلك المجتمعات أصبحت أكثر تماسكاً أمام الصدمات الخارجية، أو لربما كون الشركات العالمية التي قدمت افوق أجنحتها العولمة أضحت تمتلك خطة تسويقية أكثر حذاقة.
لكن الأرضية المشتركة التي تنطلق منها حالة التوجس والريبة تخضع لنفس المخيلة التي تجعل كل من الحداثة أو العولمة جيوشاً جرارة تقبع على الحدود وبحاجة الى حالة استنفار قومي شاملة لرد هذا العدوان الغاشم.
والنظرة التأملية المتجردة للمشهد تجعلنا نرى في هذا الصراع، الاحتدام الدائم بين قوة الحياة «ودينامكيتها» المتحولة المتبدلة دوماً والمتشكلة في أطوار متغيرة متشكلة، وقوة الهمود والثبات والسكون الموازية «لاستاتيكية» الموت.
فاحدى علامات الحياة والصحة والتقدم البشري هو التبدل المستمر، هو مواكبة صيرورة الحياة، وجميعنا قد مرت به حكايات آبائنا وأجدادنا التي تروي لنا الدخول الأول للمذياع، وحينما اعتبر شيطانا رجيما سيجلب الخراب والدمار للمجتمع، والأحداث التي صاحبت افتتاح أول محطة التلفاز، أو أول مدرسة للبنات، هذه الأحداث التي لم تندمل بعد من ذاكرة المجتمع «ولن تندمل» تقودنا ببساطة الى الخوف الفطري الطبيعي من كل ما هو جديد وطارىء، وكيف يرتدي هذا الخوف أردية عقائدية كإحدى الوسائل الأهم في محاربته ومواجهته، على حين ان المواجهة لا تحتمل هذا الثقل، لأن طبيعة نهر الحياة الجاري لا تتوقف ولن تتوقف، ومن يواجهها بعناد وقصر نظر فستغرقه بتيارها العارم.
ورفع الشعارات الدينية والعقائدية أمام كل ما هو جديد وطارىء هوانتقاص من البعد الديني الخالد، ذلك البعد الالهي الذي جعلها لكل زمان ومكان، وجعلها مستوعبة للسنة الكونية في التبدل والتحول أيضا، دون أن يحاول البعض توظيفها باغراض دنيوية مؤقتة ومحدودة البعد والرؤيا.
وسواء العولمة أو الحداثة وما سبقها أو ما سيليها من أشكال التبدل والتغير، هي صيرورة كونية، الباقي كيف نستوعبها؟ كيف نسخرها؟ كيف نكتشف مفاتيحها السرية التي تخدم هذا العصر وطبيعته، لا أن نظل مذعورين مختبئين خلف نظرية مؤامرة لا توجد سوى في أدمغتنا فقط.
|