|
صغيرة هذه الدنيا رغم كبرها.. وكثير ملتقى طرقها رغم تداخلها وتبعثرها في مساحات شاسعة حتى إن الفكر ليعجز في تصور مدى امتدادها وتشابكها.. وجميل أن يعيش المرء حاضره دون ان ينسى ماضيه او تهزه الذكريات والاحداث الكثيرة.. وقد يتمسك بخيط واحد دون غيره..
ذلك لان يوم الاحد يوم ممل في الغرب لجموده وتعطل الحياة فيه.. لكني سرعان ما غيرت رأيي عن ذلك اليوم.. ففي يوم الاحد عرضت علي صديقتي مصاحبتها في زيارة لاحدى صديقاتها.. اعجبني طراز بيتها.. وشدني اناقة اثاثه وجمال تصميم بنائه وروعة لوحاته التي رسمتها بيدها.. جميل ان يختلط حسن الذوق بالبساطة المتداخلة مع الفن.. فتصورت نفسي في ركن من اركان تاج محل.. او في معرض عالمي للفن.. قلما افرح في الجلسات الرتيبة التي تتخذ الطابع الرسمي فيلبس كل فرد فيها وجهه الرسمي ليكون مغايراً لحقيقته.. لكني شعرت بالارتياح التام..فلا زيف ولا تكلف ولا هناك اي خيط من خيوط الرسميات.. كان رب الدار طبيباً اطلعتني زوجته على صالة المكتبة فانبهرت للتشكيلة التي حوتها المكتبة من كتب علمية وادبية ودينية وثقافية.. ومن موسوعات ودوائر المعرفة.. وهناك تضطجع على أرضية الصالة كتب اخرى لمحت عناوينها على عجل فوجدت انها اقرب بميولي فقد كانت خليطاً من كتب الادب والتربية.. وبينما كنت وصديقتي وربة الدار بين معلق ومعقب.. فتحت باب احدى الغرف لتطل منها امرأة بطيئة الحركة ذات شعر قطني اللون وشحته بوشاح اسود.. فسلمت على صديقتي لأعلم انها والدة رب الاسرة..لم تمض سوى دقائق لتنزل الام الى الصالة الارضية وتدخل بخطى وئيدة لتجلس على اول كرسي صادفها.. ثم تحدثت بصوت متعب وانفاس متقطعة مشيرة الى الكتب المصفوفة على ارض صالة المكتبة قائلة: انها كتبي ومازلت بانتظار مكتبة يحضرها لي ولدي لتوضع فيها هذه الكتب.. ترى هل عملت هذه المرأة في حقل التربية؟ سألت زوجة ولدها فأجابت باقتضاب انها كانت معلمة.. لا يمكن ان تكون هذه المرأة المسنة معلمتي ولاسيما وانا اذكر جيداً ملامح معلماتي.. قالت درست وانا كبيرة في السن.. كنت في معهد للفنون البيتية فإنني خياطة من الطراز الاول.. حصلت آنذاك على كؤوس ودروع كثيرة وفتحت مشغلاً بعد تخرجي.. ولكن الزمن شل حركتي.. ويد المنون اختطفت مني ابنتي وصديقتي التي كان الناس يظنون انها اختي لتقارب عمرينا.. كانت حاصلة على درجة الماجستير في اللغة العربية.. انها ارادة الله.. كل حيلتي هي الدعاء لها والاكثار من قراءة القرآن الكريم.. تحدثت بمرارة عن ابنتها وأسهبت.. فحاولت تهدئتها بسؤال خارج عن نطاق الموضوع.. اي معهد كنت تدرسين فيه؟ وفي اي عام؟ وتيقظت احاسيس لأعلم منها ان معهدها كان ذات المعهد الذي درست فيه.. والسنوات التي عنيتها هي نفس السنوات الثلاث اللاتي قضيتهن في ذلك المعهد حديث الافتتاح آنذاك الذي خصص للراغبات في تعلم الفنون البيتية كالطبخ والخياطة والرسم اضافة الى منهج المرحلة المتوسطة المقر من قبل وزارة التربية.. وكانت ميزة ذلك المعهد.. قبول الطالبات من خريجات المرحلة الابتدائية اضافة الى افساح المجال للمنقطعات عن الدراسة لاتمامها..دون وضع قيد او شرط للفئة العمرية.. فنجد فيه من المستجدات من كان عمرها لا يتعدى الثلاثة عشر عاماً ومن المنقطعات اللاتي تعدين العقد الثاني او الثالث من العمر.. وعلى الرغم من عدم تجانس الفئات العمرية في الصف الواحد.. الا ان الطالبات انفسهن انقسمت الى مجموعات متجانسة فحققن نظام السوشيوميترا بشكل فطري.. راحت ذاكرتي تغوص في متاهات العقل لتعود ثلاثة عقود ونصف من الزمن.. فتذكرت جيداً موقع صفي واماكن جلوس زميلاتي.. ومعظم الاسماء حضرتني.. كانت المجموعة الاولى مشكلة من الطالبات المحترمات اللاتي كن يؤثرن الصمت وعدم الاختلاط ويجلسن عادة في المقاعد الاخيرة من الصف وتذكرت سهيلة الطالبة المتزوجة التي لها اولاد.. وغنية الطالبة المطلقة التي تلاحقها تعنيفات المعلمات لبطء استيعابها وكثرة اهمالها.. وخولة تلك البدينة ضخمة الجسم التي تجلس في الكرسي الاخير في الركن الايمن من زاوية الصف التي كانت سريعة النكتة خفيفة الظل.. تستقطب بعض الطالبات اللاتي يشعرن بالوحدة والانطواء لتكون لهن الحامية والمدافعة مقابل تطوعهن بالصرف عليها في مقصف المعهد وتوفير متطلبات الدروس الفنية.. ومريم قريبة المديرة التي نعلم جميعاً انها عينها السحرية في الصف.. متزوجة مبكراً ولها ولد في الجامعة.. شابة طويلة انيقة هادئة متزنة ذات شعر اسود حريري صف بطريقة جميلة ليسدل على كتفيها.. كانت نادرة الابتسامة قوية الشخصية.. اما المجموعة الثانية فكانت العصبة المشاغبة التي همها تناقل الاخبار عن الطالبات والمعلمات والاهالي وترويج الشائعات وإثارة الفتن.. والمجموعة الثالثة من الحريصات المتفوقات دراسياً والمواظبات على الدوام امثال هناء وجنان وسناء.. كنا نلتف حولهن في الصباح الباكر لنستمع الى شرحهن وتحليلهن للدروس فنستفيد من معلوماتهن ونتعود على التقاعس في عمل الواجب معتمدات عليهن في التلخيص والشرح كان الكل سعيداً بالانتماء الى تلك المجموعة.. عدت لا تمحص وجه هذه المرأة الثكلى المتعبة.. ترى من تكون؟ وعدت اسألها.. لا لشيء وانما للتأكد من انها كانت تدرس معي تحت سقف واحد.. هل تعرفين شيئاً عن مدرساتنا آنذاك؟ صبيحة وساجدة وبشائر وسلوى وزكية وردينه وغيرهن لا اعلم شيئاً سوى ان المديرة وهي ابنة عمي قد توفاها الله.. وتحدثنا عنها اذ كانت شخصية قيادية من الطراز الاول..انسانية واسعة الثقافة قوية الشخصية.. كثيراً ما تمنيت ان اصبح مثلها لدرجة انني سميت احدى بناتي على اسمها احياء لذكراها الطيبة.. نظرت الى عيني تلك المرأة المجهولة.. وجمعت نبرات صوتها المختنق لازجها في بوتقة سمعي فلم تخني الذاكرة.. انها مريم بملامحها الجميلة وصوتها الناعم.. انها تلك الطالبة التي كنا نحترس من وجودها لكونها قريبة المديرة.. مريم.. هل انت مريم؟ تلك الطالبة التي تزوجت مبكراً وكان لها ولد في الجامعة؟ نعم انه هو الطبيب رب الاسرة التي ازورها.. كان في كلية الطب آنذاك. اذاً هذه مريم التي كنا نخجل من كبريائها واحترامها لنفسها وللآخرين.. التقيتها مرة اخرى ليلة السفر فأهدتني شالاً صوفياً غلفته بقول انساني لطيف.. لفيه حولك واشعري بأنني احتضنك طوال الطريق.. نعم شعرت بذلك وأحسست بان قلبي يلفها بحبه وسيبقى كذلك. لم تكن صدفة.. هكذا قالت لي مريم..انها دعاء صادق وعطاء من الله سبحانه..ونعم بالله..فالحب عطاء ونعمة من الله.. ربما ذلك اللقاء سيعود بمريم الى الوراء لثلاثة عقود ونصف من الزمن..فتلهو بالذكرى ليكون ذلك خير عزاء لها..وربما سيكون ذلك اللقاء بداية جديدة تمتص من روحي جراحات الغربة وآلام الفراق.. لقد كان لقائي بمريم تأكيداً من ان الحياة ضيقة النطاق وان اعز ذكرى في الوجود هي ذكرى الشباب بنشاطه وحيويته.. فما أجمل حصيلة التربية وما اجمل الشعور الانساني والعلاقات التي تبنى على المحبة!! *جامعة البحرين |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الرئيسية]
|