ولا يزال مسلسل فقد الأكابر من رجالات الأمة مستمرا، وكم هو المصاب جلل، فهؤلاء الرجال الأفذاذ قد عملوا وأبانوا السبيل ومثلوا القدوات لأجيال عديدة، فكانوا نبراسا مضيئا لكل الناس، ولذا كان فقدهم ورحيلهم هو المصاب الذي نسأل الله بعد سؤالنا لهم الرحمة والغفران أن يجبره، وكما قال الأول:
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته خلق كثير |
ومن أتحدث عنه في هذا المقام هو فضيلة الشيخ ناصر بن حمد الراشد رحمه الله وأسبغ عليه من شآبيب رحمته، وهو علم من أعلام هذا البلد المبارك، ورجل ممن ساهموا في تنميته ونهضته بنصيب وافر، وهو قدرة قضائية وإدارية فذة، لا يمكن نسيان او نكران ما قدمت من جهود في كل زاوية أو ناحية شارك فيها.
وكما تميز الفقيد ظاهرا ومبكرا، وقد درس على الشيخ محمد بن مانع رحمه الله الذي كان مسؤولا عن المعارف، فكان الشيخ ناصر أصغر الطلاب وأكثرهم تميزا. ثم لازم الشيخ ابراهيم بن سليمان رحمه الله قاضي الخرمة، وعمل معه كاتبا واستفاد من علمه استفادة كبيرة.
وبدأت رحلة شيخنا العملية في مجال القضاء في عام 1364ه فعمل قاضيا في (المويه) ولا يزال ذكره عن أهل هذه البلدة حسنا.
وبعد ذلك، في عام 1367ه انتقل رحمه الله للعمل في هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة، وكان له أثر رائع واثبت مقدرته على استغلال كافة الموارد رغم قلتها للنجاح، لم يكن العدد الإجمالي للأعضاء في الهيئة يتجاوز اثني عشر عضوا، ولكن الشيخ ناصر رحمه الله غطى ذلك النقص بحضوره الدائم، والإشراف المباشر والمباشرة الفعلية لأعمال الهيئة في كل الأوقات، وليس في وقت الدوام الرسمي فحسب. وتحضرني هنا قصة تشير إلى ذلك، فأذكر أنه رحمه الله كان يخرج من بيته في أحد الأحياء القريبة من المسجد الحرام مع أذان العصر، ويقوم بالتنبيه وحث الناس لأداء الصلاة في طريقه، فلا يصل الى المسجد الحرام إلا وقد فاتته ركعة أو أكثر، وكان أحد الاخوة يتساءل عن هذا الشيخ الذي تظهر عليه سيماء الخير ويتأخر دائما، فقام بنصح الشيخ حول تأخره فلم يكن يعلم سبب تأخره فكان هذا النصح الفطري سببا في أن يختاره الشيخ ناصر رحمه الله للعمل في هذا المجال لما رآه منه من حرص على الخير.
وعاد رحمه الله عام 1372ه ليعمل عضوا برئاسة القضاة التي كانت برئاسة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رحمه الله وكان المجلس يتألف من رئيس، ونائب أول، وهو معالي الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رحمه الله ، ونائب ثاني هو فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر رحمه الله أما الأعضاء بالاضافة إلى شيخنا فهم فضيلة الشيخ محضار عقيل رحمه الله ، وفضيلة الشيخ عبدالرحمن عادل رحمه الله وفضيلة الشيخ ناصر بن محمد الوهيبي رحمه الله . وبعد ذلك في عام 1374ه تم تعيين فضيلته رئيسا لمحاكم عسير الشرعية، وأمضى فيها قرابة الأربع سنوات، وكان له خلالها دور كبير في الإصلاح وعمارة المسجد الجامع وكذلك كان له نشاط في اقامة بعض الدروس العلمية في بيته وفي المسجد، وقد تشرفت بأن كنت أحد القارئين عليه، وخلال فترته، اشتهر هناك بقوة الشخصية والشدة والتصدي الصارم لمنتهكي حرمات الله، حتى أنه أطلق عليه آنذاك لقب (عيار 50) كناية عن قوته وتشبيها له بالمدفع.
وفي عام 1378ه تم نقله رحمه الله ليعمل مديرا عاما لرئاسة القضاة، وأمضى فيها ما يقرب من ثلاث سنوات، وكان سماحة المفتي ورئيس القضاة الشيخ محمد بن ابراهيم يحاول إلزامه وإعادته للقضاء ومخيرا له بين الرياض أو أي مكان آخر، ولكن الشيخ ناصر بن حمد رحمه الله أصر على عدم استلام اي منصب قضائي.
وخلال عمله رحمه الله في مجالات القضاء والامر بالمعروف والنهي عن المنكر سنين طوال، أثبت رحمه الله بعد نظره، وعلو كعبه، ومراعاته للمصلحة العامة مع فهم عميق ودقيق للسياق الاجتماعي الذي كان سائدا في البلاد حينها.
كل ذلك، وبعد رفضه استلام اي منصب قضائي، رشحه سماحة المفتي لتعليم البنات، فتبع هذا الترشيح قرار حكيم، اتخذه ولاة الأمر بتعيينه، فقد كانت هذه المهمة عظيمة ودقيقة وتحتاج إلى أن يكون المشتركون فيها من ذوي البصيرة الناضجة، والحكمة في أقوالهم وتصرفاتهم، فقد واجه هذا المشروع ببعض المعوقات الناتجة عن حداثة الفكرة وغرابتها بالنسبة للمجتمع في ذلك الوقت، وعدم الفهم الصحيح للفوائد المتوخاة منها، ولقد تبينت الحكمة في صواب اختياره رحمه الله لهذا العمل، فكان مثالاً للقائد الإداري والتربوي من الطراز الأول، وكان قدوة في ذلك الوقت وقدم الجهد والغالي والنفيس في سبيل المصلحة العامة للأمة، وكذلك مصالح الإدارة التي يقوم عليها، ولم يكن رحمه الله يأنف من أن يكون هو من يقوم بمراجعة «موظفين» من مراتب أدنى من مرتبته بكثير في وزارة المالية ليناقشهم في ميزانية الرئاسة العام لتعليم لبنات، ولم يكن يفعل ذلك بدافع من المركزية، ولكن ليقينه من ان حضوره الشخصي سيعود بفوائد عديدة على ميزانية التعليم. وكان رحمه الله بعيد النظر في التخطيط حيث قام بشراء الأراضي واقام عليها مشاريع لمصلحة الرئاسة، وكان له زيارات مفاجئة على كل ما يتعلق بالاعمال التنفيذية، وبصورة عامة فقد كان له رحمه الله العديد من المواقف الرائعة التي سجلها التاريخ بأحرف من نور ومداد من ذهب وحفظا في قلوب كل من عرفه.
وبعد ان أدى رحمه الله دوره ومشاركته في إكمال مسيرة تأسيس الجهة المهمة التي تعنى بنصف المجتمع وشقائق الرجال، ترجل الفارس من هذا المنصب ليتولى منصباً اخر أولته الدولة عناية قصوى فتم تعيينه رئيساً للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام، والمسجد النبوي، مكملا لمسيرة سماحة الشيخ العلامة عبدالله بن حميد رحمه الله الذي تولى الإشراف الديني على المسجد الحرام، وعندما تولى الشيخ ناصر بن حمد هذا المنصب تمت إضافة المسجد النبوي تحت مسئولياته، وكعادته رحمه الله فقد أبدع في هذا العمل أيما إبداع، وكان قدوة رائعة ومثلاً يحتذى، حتى لقد رأته العيون يشارك عاملي النظافة ولم يكن هناك حاجة لمشاركته البدنية طلباً للأجر والمثوبة من الله عز وجل في المقام الأول، ثم لحث العاملين وتشجيعهم وتقديم القدوة والمثال، فكان أن نتج عن عمله أن شهد الحرمان الشريفان في عهده تقدماً في الخدمات بشكل يذكر فيشكر، وكان له من المواقف الدالة على أكيد حرصه وبذل نفسه في سبيل إنجاز ما وكل به ما يشهد به القاصي والداني.
إن سيرة هذا الطود الشامخ تجعل المتأمل متأكداً من ان ابن دريد لم يبالغ عندما قال:
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى |
فهذا البيت في نظري أقل من ان يوصف به شيخي ناصر بن حمد الراشد رحمه الله ويشهد على ذلك انه وبعد ان طلب الإحالة على التقاعد عن العمل الوظيفي ولم يتقاعد قط عن الأعمال الخيرية الكثيرة ثم قبول ولاة الأمر لهذا الطلب تقديراً له ولما قدم للبلاد من خدمات جمة، صدر الأمر الملكي بتعيينه رئيساً لديوان المظالم، فمثل هذا الرجل الفذ يبقي في جعبته الكثير من العمل المنتج، والإبداع الأصيل، وعلى الرغم من ظروف السن والظروف الصحية التي أحاطت بفضيلته في السنوات الأخيرة إلا أنه استمر في العطاء بكل ما أمكنه من جهد، حتى حان الوقت الذي لم يتمكن معه من الاستمرار في العطاء، تسلم الراية من بعده لإكمال المسيرة فضيلة الشيخ منصور المالك الرئيس الحالي لديوان المظالم. وبعد معاناة صحية أسأل الله أن يجعلها له تكفيراً وتمحيصاً ورفع درجة أسلم الروح إلى بارئها في شهر شوال من هذا العام 1422ه. وبذلك تنفرط درة من عقد العلماء العاملين والرجال العظماء، الذين سيذكرهم التاريخ أروع الذكرى، وأسأل الله العظيم أن يجبر الأمة في مصابها وأن يخلفها خيراً، وخالص العزاء اقدمه لأبنائه وأهله وتلامذته ومحبيه، وأسأل أن يجمعنا به ووالدينا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
المستشار والمدير العام لرئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الغربية سابقاً. |