للقلم رسالة...
والكلمة تخرج عنه أمانة...، وهي إمَّا أن تنزل في الميزان فتملؤه، أو تهوي إلى الدرك هباءً منثوراً...
وهي لكلِّ صاحب قلم على قدر ما يمنحها من القيمة، ويزنها بقدْر مثقاله...
والقلم الشاهد على قيمة الكلمة عند صاحبه، وعلى حجم ما يزنها به من القدْر عنده...
والإنسان ذو مشارب وأهواء...
ولا يعبر عن مشاربه وأهوائه شيء بمثل ما يعبر عنها قلمه...،
ولا يستوعبها شيء بقدر ما تستوعبها كلمته...،
لذلك عرف الإنسان بما يقول...، وهو مسؤول عن قوله، فكيف إن جاء قوله مكتوباً يؤكد مسؤوليته، ويدينه بها؟...
لا أحسب أنَّ أحداً من أصحاب القلم، الخُلَّص للقول، الذين يملكون الاحساس الصادق، واليقين العميق، يجهل هذه المسؤولية، أو يتنكَّر لهذه الأمانة...
والمسؤولية لها حدودها وأطرها، ولها أبعادها وأعماقها...
فكيف إن كانت مسؤولية عن مبدأ يتكون عن عقيدة، يتحقق عنها التوجَّه، والاحساس، والتفكير؟... ومن ثمَّ ينطلق منها الحرف والكلمة بالتعبير؟...
من ضمن ما أذكر حين يفاعة التعامل مع القلم، ما كانت له من رهبة في نفسي، مع كامل التِّلقائية التي أمارس بها الكتابة...، ذلك لأنَّ هناك مَنْ مزج في حسي «القلَم» بتلك الآية الكريمة التي أنزلها تعالى في محكم كتابه:{ن» والًقّلّمٌ ومّا يّسًطٍرٍونّ} [القلم: 1] والأخرى {پَّذٌي عّلَّمّ بٌالًقّلّمٌ، عّلَّمّ الإنسّانّ مّا لّمً يّعًلّمً } [العلق: 4 5] فبالقلم علمَّ الإنسان ما لم يعلم...، ووراء ما لا يعلم كانت هناك بحور، وصحاري، وسموات، وآماد... كنت كلَّما أبحرت في التفكير فيها، أصابني نوع من الرهبة...، لوّنت احساسي بهيبة القلم...، فأحسب له حساباً كبيراً كلَّما أقبلت عليه، وأمسكت به...، لا يقلُّ في تلك المرحلة عن الاحساس بهيبة الإقبال على من احترم وأحب معاً...
تنطلق مسؤولية القلم مَّما يمكن أن يتركه من أثر في الآخرين...، فهو رسول المعرفة، وهو جسر التواصل، وهو ممثل بوتقة التفكير، وهو مرسل الخاطرة بمثل ما يرسل القرار...،
وهو المعبِّر عن كلِّ ما له مساس بالإنسان إن اتُّخذ ما يأتي عنه إضافة إلى، ووسيلة لتغيير الإنسان من وإلى، ومّما هو فيه، إلى ما هو مُقدمٌ عليه...،
فالقلم أُسُّسُّ التكوين لكلِّ ما يأتي به، ويأتي إليه من عقل الإنسان...
ولئن كان الإنسان لايكَلَّف إلا متى نضج عقله، وبلغ رشده أي بلغ من العقل ما يمكِّنه من الاختيار والقرار...، فإنَّ للقلم ذات التكليف...، ومسؤولية الاختيار والقرار...
فمن من الكاتبين بالقلم،
والقارئين لما يرسله القلم، تَفكَّر في هذه المسؤولية عندما يغرس سنته على الورق، ويُجري حبره فوقه بما يعتلج به ذهنه، أو يدور في تفكيره، أو يراود عقله؟ أو حتى احساسه؟...
ولماذا قال الشاعر إنَّ الإنسان يفنى، ويبقى ما سطره قلمه؟...
وكيف يكون بقاء الإنسان من خلال كلمة؟...
ولماذا قيل إنَّ كلَّ ما يكتب الإنسان هو مسؤول عنه في آخرته؟ حيث يسجل له، وعنه، كلَّ ما ينطق، أو يفعل، وجزءٌ من نطقه، وفعله، قوله المكتوب؟...
أليس هذا الأمر فيه ما يسترعي اليقظة، ويتطلَّب الانتباه، ويدعو للحذر من مغبَّة حصاد أقلامنا؟...
عند هذا... أدعو:
اللَّهم اجعل أقلامنا شواهد لنا لا علينا...
اللَّهم وأجْرها فيما تحب ولما تحب...
واللَّهم... اغفر لنا حصادها الذي لايفيدنا...، يوم نأتي بما قلنا وفعلنا...
وقد منحتنا نعمة التعبير...، فلا تحرمنا رحمة التَّكْفير عنْا...
واجعلنا من الذين يحتسبون لك كلَّ الذي تجري به أقلامنا.
|