إلى الشيخ الجليل والعالم الفذ الذي غيّبه الموت فجأة بعد ان أدى الأمانة بكل جد وإخلاص ووفاء وتفانٍ.. إلى أستاذي وشيخي والقريب إلى قلبي فضيلة الشيخ محمد بن ابراهيم بن جبير رئيس مجلس الشورى رحمه الله الذي نقف اليوم ذاهلين لفراقه لا نملك غير كلمات ضعيفة مرتجفة أمام هول المناسبة ومرارة الرحيل.
يشهد المولى عز وجل انني كنت من أشد المعجبين بشخصكم وحكمتكم ورجاحة عقلكم وعطاءاتكم وإنسانيتكم فرغم محدودية المرات التي التقينا وتحدثنا فيها سويا، إلا أنها تركت انطباعات ومؤثرات تغلغلت إلى أعماق فكري ووجداني بطريقة سلسة قلّ ان يكون أحد غيركم من قبل قد وصل إليها. إن متلازمات الصدق والعمق والشفافية في أطروحاتكم أعجبتني كثيرا وجعلتني أؤمن بكم وأحبكم أكثر، فهذه السمات لا يختص بها إلا الصادقون مع أنفسهم والمحبون الخير لبلادهم.
أيها الشيخ الفاضل، لقد سطرت إلى فضيلتكم عشرات المراسلات في مناسبات عدة.. وها أنذا أسطر إليكم هذه الرسالة ونحن في عالمين مختلفين.. والله يعلم كم بقي لنلتقي مرة أخرى في عالم آخر، ونجتمع ان شاء الله سويا في جنات النعيم.
إن رحيلكم المفاجئ أيها الغالي، وتباعد المسافات الجغرافية بيننا، قد ضاعفا من حجم فجيعتي ومصابي فمهما حاولنا أن نسلو أو ننسى فلن نتمكن .. فمحال ان يُنسَى شخص بحجم قامتكم ومكانتكم، وإن الخسارة التي خسرتها بلادنا وأمتنا برحيلكم خسارة لا تعوض، نسأل الله ان يعيننا على تحمل هذا المصاب، ويمنحنا الصبر والسلوان.
أيها الراحل العزيز، إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإن اللسان ليلهج لكم بالدعاء النابع من القلب لرحيلكم أيها الراحل إلى دار الخلود وجنات النعيم في أعلى عليين مع الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين إن شاء الله. أحببتكم في الله ياشيخنا، وأحبكم جميع من عرفكم عن قرب، وأحبكم حتى من لم يتشرف بلقائكم أو الحديث معكم، فلقد عرف عنكم الجميع الإيمان العميق بالله والعقيدة الإسلامية الصافية، والأمانة والنزاهة، والحكمة البالغة، والإخلاص في العمل، والصدق مع النفس والغير، واحترام الرجال صغيرهم وكبيرهم.
هذه الخصال وغيرها الكثير، هي التي جعلت ولاة الأمر في بلادنا ـ أيدهم الله ـ يضعون ثقتهم المطلقة في شخصكم النبيل لتولي مسؤوليات جسام في أكثر من ثغر من ثغور البلاد.. ووصلت هذه الثقة إلى درجة التشبث، إيماناً من ولاة الأمر بأن الزمان قلما يجود برجال من أمثالكم يرحمكم الله. فهل أنتم رحلتم فعلا أم أنتم هنا مقيم في قلوبنا وأنفسنا وعيوننا؟ بل أنتم مقيم بما تركتموه من أعمالكم العظمى الباقية والتي ستبقى بإذن الله... بلى أيها الشيخ الوقور، ستبقى هنا نجما ما هوى وصرحا مضيئا ونبعا خالدا من ينابيع الخير والعطاء والحكمة.
أيها الحبيب، في هذه اللحظات وأنا أسطر هذه العبارات النابعة من القلب، تتزاحم في خاطري وذاكرتي أطياف وصور تجسد المرات التي التقينا وتحدثنا فيها.. فها أنا أراكم واقفا شامخاً عظيماً ووقورا كما عهدناكم دائما، وها هي كلماتكم وتعابيركم البليغة يعيد وقع الذكرى توليدها وتجديدها كأنكم لم تواروا التراب حتى الآن.. فعظماء الرجال لا يموتون حقا.
إن الذاكرة في هذه اللحظات، استحضرت حدثين مهمين في علاقتي معكم أيها الفقيد العلم.. أولهما موافقتكم الكريمة على زيارتنا في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أثناء زيارتكم الأخيرة إلى تونس وأعلم ان موافقتكم يرحمكم الله انطلقت من جانبين: أولهما اهتمامكم بهذه المؤسسة ورسالتها، وثانيهما تشجيعكم وحدبكم على ابن بار من أبناء وطنكم ولا تزال كلماتكم التي قدتموها بحقي في حفل التكريم، ترن في أذني وتهز كياني... وإن أنسى، فلن أنسى التقدير الذي خصصتموني به بمنحي ميدالية مجلس الشورى، هذا التكريم الذي أعتبره وساما أعتز وأتشرف به لدلالته العظيمة ومعانيه السامية.
وإن أنسى أيها الراحل العزيز، فلن أنسى التوجيهات السديدة التي شرفتموني بها أثناء اللقاءات التي التقينا فيها،
ولن أنسى، يرحمكم الله، مؤازرتكم ومساندتكم لي في كثير من الموضوعات التي تشاورنا حولها والتي تعكس مدى ما تكنونه من حرص لما فيه الخير لأمنكم ووطنكم... جعل الله ذلك في موازين أعمالكم يوم القيامة.
أعذرني، أيها الشيخ الكريم، فالكلمات عاجزة عن التعبير، فمهما قلت فلن أكفيكم حقكم ولن أتمكن من تجسيد ما يجيش في صدري وخاطري.. ولكنني لن أقول إلا يرحمكم الله، ويبدلكم داراً خيراً من داركم ويجمعنا معكم في فسيح جناته في أعلى عليين، ويجزيكم عنا خير الجزاء، وأن يلهم ولاة الأمر وذويكم، ومحبيكم، وأبناء الأمة العربية والإسلامية خالص العزاء والسلوان.
«إنا لله وإنا إليه راجعون»
محبكم في الله
* نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم |