أخي القارىء (الشاب/ الشابة)، على الرحب فكراً والسعة تفكيراً، حيث نواصل هنا استعراض طرائف الكتابة (المجنونة!)، فنستهل هذه المقالة باستعارة قول قرأته في كتاب باللغة الإنجليزية، ونصه تعريباً: «التجربة ليست هي ما يحدث للفرد، بل هي الأحرى ما يفعله الفرد تجاه ما يحدث له»، والمعنى المضمن هنا أن في التجربة كما تقول العرب (علم مستأنف) أي درس جديد مفيد، شريطة أن يتحرى الفرد الحكمة، فيُعمِل فكره، ويزن أفكاره، فلا يجعل من ردات الفعل (إجابات) لمواقف الحياة المحشوة بالانفعال أساساً. وهذا يسري على الكتابة أيضاً، فهي (ردة فعل) لفعل، وأقصد بالفعل كمية ونوعية قراءات الفرد وتجاربه الحياتية. عليه، فعليك أن تبتعد عن الانفعال حين تكتب، فلا تسمح للموضوع أن يسيطر عليك، بل العكس من ذلك هو الواجب. فيتعين عليك أولاً (القبض) على الفكرة بكتابتها، وذلك لكي لا تهرب منك، وبكتابة فكرة الموضوع الرئيسة تكون قد أمسكت بخطامه، وبما أن المسألة هنا (قبْض في قبْض!)، فعليك إذن تقييد (رجليه ويديه!)، وتغطية عينيه، وزفَّه من ثم إلى زنزانة (عقلك)، وتْركه هناك لفترة زمنية كافية ليتمخض، ويتخمر، فيعترف لك (عنه!) بالمزيد، مما يتيح لعقلك فرصة تمحيصه، والتمعن فيه، وسبر غوره، وقياس مداه، فتقدير جدوى الكتابة عنه من عدمها.
عفواً فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لما كتبت هذه المقدمة، فلك مني (جزيل!) الأسف على ما لم تفده منها، (وشديد!) الشكر على ما أفدته، حيث إن كل ما أردت قوله هو ضرورة أن تتحلى حين تكتب بالواقعية والموضوعية، والواقعية كما يتضح من اسمها تعني الإنطلاق من ظروف الواقع، ومراعاة أوامره ونواهيه وحساسياته، وكذلك تعني الموضوعية، حيث يجب عليك أن تكتب (موضوعك) حسب حيثيات وحقائق (وأوضاع الموضع) الذي تكتب فيه وعنه ومنه وإليه.
فلو افترضنا أنك قمت على سبيل المثال برحلة إلى الصين، وأردت أن تكتب لنا عن تجربتك (الغذائية) خلال تجوالك الميمون هذا، فثمة ما يجب مناقشته معك: فمع أنني لا أدري إن كنت تدري، فبعض سكان المناطق هناك يعتبرون (رأس القرد!) من أشهى وأفخم الرؤوس الشهية/ الفخمة: (يعني سوبر ديلوكس!)، عليه فيتوجب عليك حين الكتابة عن موضوع الأطعمة هناك بأن تكتب إنبثاقاً من هذه الحقيقة الثقافية (القردية!)، وليس من وجهة نظرك الثقافية البحتة، فلا تنسى حقيقة أنك ستغضب فيما لو زارك فرد من هناك، ليعود إلى بلده، فيكتب عن ضيافتك له بطريقة مقززة، وذنبك الوحيد هو مجرد أنك قدمت له وجبة صحراوية (من الضبَّان!). فهذه بهذه، مما يوجب عليك تقدير حقيقة أن القرد غزال (في عين أو ضروس!) ثقافة هذا الفرد، وثقافة الفرد بمثابة أمه، إذن فلقد صدقوا حين قالوا بأن «القرد بعين أمه غزال!». فمثلما هو لحق لك هنا، فالحق عليك هناك، فلك أنت أيضاً أن تتغزل مذاقياً بعكرة الضب بما يستحقه مذاقها في فمك من اللوك حباً جماً، عليك احترام عاداتهم الغذائية، مثلما تتوقع أنه يجب عليهم احترام عاداتك الغذائية.
الآن (وقد انْسدَّت نفسك!) عن الأكل، ولم يعد ثمة ما يشغل ذهنك، نلج في الموضوع، لنكمل استعراض طرائق الكتابة حين (تستعصي الكتابة). فعلى افتراض أنك أردت أن تكتب عن موضوع رحلتك المذكورة غير أن توقُّف التفكير كان من نصيبك، فعليك أن تعلم أن هناك أشياء فكرية يتم الخلوص من استعصائها ومعوقاتها بقلبها ذهنياً رأساً على عقب، أو ما يسمى باللغة الإنجليزية (The Think Upside Down Method). وتطبيقا على رحلتك المشار إليها، فعليك في حال تعسُّر الكتابة عنها بطريقة طبيعية، أن تكتب عنها (مقلوبة)، بمعنى أنت تبدأ من آخر أحداث ما فعلت خلالها، أي من النهاية إلى البداية، ولنفترض أنك أمضيت هناك عشرة أيام، إذن فاليوم العاشر هو البداية، ففيه ذهبت إلى المطار لتستقل الطائرة إلى بلدك، وقبل ذلك بيوم كنت تقوم برحلة بحرية، وقبلها بيومين قمت بنزهة برية، وقبيل هذه الأثناء تناولت (الوجبة اللي أنت خابر!)، وقبل ذلك بقليل كنت في بهو الفندق تقرأ في كتاب ما.. وهكذا تواصل الكتابة رجوعاً إلى الوراء حتى تصل إلى لحظات كنت في مطار بلدك قادماً من منزلك تنتظر إقلاع طائرتك إلى الصين، هنا وحينما تحس بأنك قد أوفيت الموضوع حقه، فعليك القيام (بتعديله!).
ولكأني بك الآن تتساءل بالقول: تعديل ماذا؟! لأقول ما أسرع ما نسيت..، ألا تتذكر بأنك في الأساس قد قَلَبْت موضوعك رأساً على عقب، فبدأت الكتابة من حيث انتهت الرحلة لا من حيث ابتدأت..؟! حسناً لا داعي للتأسف، فقم بدلاً من ذلك بقلب الموضوع..، وإياك أن تنسى العنوان أيضاً!.. عفواً.. فأتمنى أنك لم تفهمني (خطأ!)، حيث كنت (أخاطب نفسي!) وليس أنت، فقد كتبتُ هذه المقالة ابتداء من النهاية إلى البداية، وخوفاً من أن أنسى أن (أقلبه)، أخذت بتذكير نفسي بشيء (من الحدة والغضب!) لكي لا تنسى، وعلى كل فعلي من غير نفسك (تمون!) إلا على نفسك، وبالطبع فكل ذلك أملاً بفهمك لهذه المقالة قلباً وقالباً ومقلوبةً..!
.. في المقالة (الخميسية) القادمة إن شاء الله نختتم هذه المقالات باستعراض الطريقة الأخيرة: (الكي!) لعلاج أزمة استعصاء الكتابة، ويتمثل (الكي هذ) بحل الأزمة من خلال خَلْق أزمة أخرى..، ولم لا؟! فلا يفلُّ الحديد يا كاتب المستقبل إلا الحديد، ولعلمك فثمة حرائق لا تطفأ إلا بحرائق..!!
|