ذات يوم سأل ناجي العلي رسام الكاريكاتير الشهير الذي اغتيل في لندن عام 1987م احد اصدقائه قائلاً: هل تعرف بيير صادق، رسام الكاريكاتور في صحيفة «العمل» الناطقة باسم حزب الكتائب، إنه فلسطيني.. وقبل أن تجحظ عينا صديقه دهشة واستغراباً تابع ناجي العلي كلامه.. أجل.. أجل، بيير صادق شخصياً، المتخصص بشتم الفلسطينيين والتعريض بهم، فلسطيني لحماً ودماً واسرة، وهو تحديداً من قرية البصة (قضاء عكا)، ثم ختم ناجي العلي مفاجأته متسائلا: وما هو المدهش في الأمر.. عندما يتخلى المرء عن كونه فلسطينياً فيجب أن نتوقع منه كل شيء..!! مرة أخرى تعود قضية المعتقلين في سجون السلطة للظهور بعد وفاة الشاب عبدالناصر الصوافطة واصابة آخرين من جراء اطلاق الشرطة الفلسطينية النار على آلاف المتظاهرين الذين انطلقوا إلى سجن نابلس للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين بعد استشهاد اربعة من قادة حماس في المدينة على يد قوات العدو الاسرائيلي..!! مرة أخرى يصبح القاتل والقتيل فلسطينيين تحت ذريعة الحفاظ على وقف اطلاق النار..!! شاهدنا ذلك في احداث غزة المؤسفة في اكتوبر الماضي، وفي قضية اعتقال عبدالعزيز الرنتيسي في ديسمبر الماضي، وفي مطاردة الممرض أحمد لبد من مخيم الشاطئ واطلاق النار على عيادة وكالة الغوث التي يعمل بها واصابة طبيب وبعض المارة، وكأن هناك اصراراً من بعض قادة الاجهزة الأمنية على تحويل السلطة التي كانت وما زالت حلم الفلسطينيين إلى نظام قمعي متخلف يصادم أحلام وآمال وتطلعات شعبهم..!! ففي هذه الأيام التي جسدت دماء شهداء وجرحى انتفاضة الأقصى المباركة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تعتبر أعظم سلاح في يد شعبنا المناضل، هذه الوحدة التي حرمت الاعتقال السياسي تحت ضغط قوة الحق الفلسطيني في مواجهة آلة الحرب والدمار الاسرائيلية، والحالة النضالية التي تتطلب توظيف جميع الطاقات من أجل انهاء الاحتلال، ينزف الدم الفلسطيني مرة أخرى، ويستمر تساقط الشهداء بالمجان..!! ولكن هذه المرة بأيد فلسطينية..!! ما هي الأسباب التي تدفع بالفدائي السابق الذي حمل السلاح ليدافع عن ابناء شعبه وخاض عشرات المعارك طوال عشرات السنين ليتحول إلى قاتل وسجان وجلاد؟!
هل نحن في زمن الضحية الذي يدافع عن دم جلاده؟! وماذا يفيد الانسان لو كسب العالم كله وخسر شعبه؟!
حين يسأل المقتول قاتله:
يا لك من معذب إلى الأبد..
كيف خنت حليب أمك؟!
كيف قتلتني؟!
ترافقت اقامة السلطة الوطنية الفلسطينية مع فتح ملف ما زال يؤرق ابناء الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يعاني الألم والحرمان والاعتقال والتشريد والقتل، ويتعرض هذه الايام لمؤامرة دولية للقضاء على سلطته الوطنية وبالتالي القضاء على القضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني بالكامل، إنه ملف الاعتقالات السياسية التي عادت بعض الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى فتحه مرة أخرى في الأيام الأخيرة، حيث يقبع في سجون السلطة الفلسطينية أكثر من 200 معتقل سياسي غالبيتهم تنتمي إلى حركة حماس والجهاد والجبهة الشعبية، والتهمة الموجهة لهم مقاومة العدو الاسرائيلي..!! مع اعتراف مسؤول فلسطيني أن 80 في المائة ممن قبضنا عليهم لم يرتكبوا أي جريمة بموجب القانون الفلسطيني ويعود اعتقالهم إلى ضغوط امريكية واسرائيلية للاشتباه بنشاطهم في مقاومة الاحتلال أو لزيادة عدد المعتقلين لكي تظهر السلطة وكأنها حريصة على محاربة الارهاب..!!
في لقاء سابق مع العقيد محمد دحلان مسؤول الأمن الوقائي في قطاع غزة قبل قيام السلطة تحدثت معه عن خشية الجماهير الفلسطينية مما يتردد عن نية السلطة انشاء هذا العدد غير المسبوق من الأجهزة الأمنية، وأن هذه الخشية تنبع مما مثلته أجهزة الأمن الاسرائيلية طوال تاريخ الاحتلال من قتل وارهاب وقمع وتنكيل وتهجير، وان الشارع الفلسطيني يتحدث عن بعض الاسماء المرشحة لمناصب عليا في الأجهزة الأمنية لا يمكن أن تكون إلا قمعية بحكم تراثها وتاريخها السابق، وأن هولاء قد يتسللون للداخل وهم يصكون اسنانهم للانتقام من شعبهم في محاولة منهم لتكرار تجربة الفاكهاني في الاراضي الفلسطينية المحررة، وأن مخاوف الشارع الفلسطيني تستمد وجودها من اسباب موضوعية وحقيقية، وأن الكميات الهائلة من التطمينات اللفظية التي لا تصمد أمام الحقائق الموضوعية لا تبرر الهرب من مواجهة الحقائق، وأن المطلوب هو اجراء تحليل دقيق لكل مخاوف الفلسطيني من القمع، فالجماهير الفلسطينية في اراضي السلطة الفلسطينية كما في بقية الاراضي المحتلة لديها حساسية خاصة وفريدة في التعامل مع الشرطة التي لم تكن خلال معظم هذا القرن إلا شرطة قمع واحتلال، كل همها هو تحقيق مصالح الاحتلال بدون النظر إلى المهمة الوطنية والانسانية التي يجب أن تقوم بها مبدئياً، أي خدمة الشعب وحمايته.
وكان رد دحلان: «لولا دماء الشهداء والجرحى والمعتقلون وتضحياتهم لما عدنا إلى ارض الوطن، اننا قاتلنا من أجل فلسطين، ولن ترفع بندقية في وجه فلسطيني حتى لو اطلق النار تجاه شرطي لأننا جميعاً جسد وقلب واحد».
واضاف :«إن الدرس الصباحي اليومي للشرطي ورجل الأمن الفلسطيني قبل أن يباشر عمله سيكون المحافظة على الانسان الفلسطيني حتى لا تذهب دماء الشهداء والجرحى والمعوقين والاسرى ودموع الثكالى والارامل والايتام على مدار أكثر من قرن من الزمان هباءً منثوراً، وحتى نفشل العقلية الاسرائيلية التي تخطط لحرب فلسطينية فلسطينية تطيح بآخر منجزات ومكتسبات الشعب الفلسطيني».
واستبشر الفلسطينيون خيراً في الأيام الأولى لانشاء الأجهزة الأمنية حيث أكدت السلطة مراراً وتكراراً بأن الهدف من انشاء هذه الأجهزة ليس لتكون عصاه على الشعب الفلسطيني وإنما رافعة له، وأن احدى مهامها حماية الشعب الفلسطيني وحقوقه من التجاوزات الاسرائيلية. وللاسف الشديد فإن ممارسات بعض قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية تجاه أبناء شعبهم من قتل واعتقال ومطاردات وما يتخللها من اطلاق الرصاص على المارة، واعتقال اقارب المطلوب لهذه الأجهزة حتى يتم تسليم نفسه، قد وضعتهم في خانة مشتركة مع قوات الاحتلال الاسرائيلي..!!
فقد كان هناك اصرار من بعض قادة الأجهزة الأمنية على اتباع خطوات الاحتلال، وأن تبقى زنازين المعتقلات والسجون التي كانت رمزاً للظلم والطغيان الاسرائيلي طوال فترة سنوات الاحتلال البغيضة، تبقى رمزاً جديداً لظلم الفلسطيني لأخيه الفلسطيني؟!! كيف ستملك السلطة الجرأة على الطلب من الحكومة الاسرائيلية بالافراج عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، والذين تتهمهم اسرائيل بأن ايديهم ملوثة بالدماء الاسرائيلية وسجون السلطة تعج بالمعتقلين المتهمين بنفس التهمة؟!
إن موضوع الأجهزة الأمنية والمعتقلات والمعتقلين موضوع مهم وحيوي بالنسبة لجماهير الشعب الفلسطيني التي تعيش مرحلة جديدة لم يسبق لها أن عاشتها في أي مرحلة من مراحل التاريخ، فالشعب داخل الاراضي الفلسطينية المحررة يتعامل لاول مرة مع قوات امن فلسطينية هم اخوة وابناء اقارب لهم، وما الاستقبال الحار والمؤثر والمثير للعواطف الانسانية، والدموع التي كانت تنهمر بغزارة من عيون الجماهير عند عودة هذه القوات إلى الوطن، إنما كانت لاستقبال الأخ أو الابن أو القريب قبل أن يكون الشرطي أو رجل الأمن، وإن الشعب الفلسطيني الذي عانى من الظلم والقهر والاستبداد طويلاً ينتظر أن يجد في الشرطة ورجل الأمن الفلسطيني العدل والمساواة والحماية والقدرة على رد الحقوق إلى اصحابها، إذ لم يكن يخطر ببال الفلسطيني للحظة واحدة أنه ستقيد يداه ورجلاه من قبل شرطي فلسطيني، ويتعرض للضرب والتحقيق والاهانة من قبل زميله السابق في السجن الاسرائيلي!!
كلمة أخيرة إلى قادة الأجهزة الأمنية:
إن الحق والعدل ابقى واثبت على أرض وطننا، وان اصرار البعض منكم على التحول إلى «لحديين» والدخول في مواجهة شاملة مع جماهير الشعب الفلسطيني ارضاءً للعدو الاسرائيلي يشكل طعنة لمسيرة نضال وجهاد الشعب الفلسطيني المتواصل منذ أكثر من قرن، وخيانة لدماء الشهداء والجرحى والاسرى الذين سقطوا على درب الحربة والاستقلال أمام حرب الابادة والتطهير العرقي الذي يمارسه العدو الاسرائيلي لكل ما هو فلسطيني، وقد علمنا التاريخ انه لا يرحم..! ولا يتآمر..! لكنه يسجل المؤمرات..!
ولتكن آخر كلمات الشهيد كمال ناصر قبل اغتياله نبراساً لكل منكم في المرحلة القادمة :(أما القيادات، فتغيير، وأما الاشخاص فسيزولون، وتبقى القضية أكبر من القيادات والاشخاص، ولابد أن يذوب الجزء في الكل وأن يذوب الكل في الثورة قبل أن تسقط الثورة كما فعلت في الماضي القريب الاجزاء التي لا تستحق الحياة)..!!
*كاتب وصحفي فلسطيني الرياض |