|
لازالت الاحزان تتوالى، والمآسي تتتابع، وليس هناك أعظم فاجعة، وأشد قارعة من فراق العظماء، وغياب النجباء، الذين بهم بعد الله تعالى تنال الآمال، وتجنى الثمار، وتسمو الأفكار، وترتقي الشعوب، وتزكو القلوب، وإن هذا البلد الكريم قد منّ الله عليه بثلة ماجدة من العلماء والأمراء الذين ستبقى اسماؤهم منقوشة على محياه، مغروسة في فؤاده، عالية علو أعلامه، شامخة شموخ منهاجه، بذلوا أوقاتهم، سخروا ايامهم، وجادوا بمواهبهم لخدمته ورفعته، ورقيه وتقدمه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
إن الشيخ محمد بن جبير يعد بلا منازع في مصاف أولئك العظماء الذين تزينت بهم هامة هذه البلاد، وتضمخت بأريجهم، وتطيبت بعبقهم، وإن هذا الرجل ليس صاحب منصب فقط ومركز اجتماعي، بل هو قبل ذلك كله رمز من رموز العلم والمعرفة، والشريعة والدعوة، حياته حافلة بالعلم، آهلة بالعطاء، نابضة بالثقافة، أشرقت شمس حياته العلمية من دار التوحيد بالطائف، فكان ثمرة من أولى ثمارها، وباكورة من أطيب نتاجها، ثم بدأ ينقش مسيرته العلمية والثقافية بجد واجتهاد، تعب واجهد، وسهر وناضل، وجاهد وكافح، وتعب ونصب، وسهر وأرق، لقد شرب الشيخ كؤوس الهم والتعب والصبر حتى تربع على ذروة المجد العلمي والاجتماعي. يعجبك في هذا الشيخ سمته وهدوؤه وتواضعه، فإن اناساً ليس لديهم مايمثل ربع مالدى الشيخ من ملكات وقدرات ومكانة ومناصب، ومع ذلك يملأون الدنيا ضجيجاً، اما هو فقد كانت اقواله اعمالاً، وسكوته بذلاً، وهدوؤه حيوية ونشاطا، وسكونه جهاداً وكفاحاً. ومما يضاف الى سمات الشيخ وصفاته، وعطاء ربه له وهباته، هذا الاجماع على حبه واحترامه من اعضاء المجلس على اختلاف طبقاتهم، وتصوراتهم واتجاهاتهم، وقبلهم كان هذا الاجماع والإقدام من منسوبي القضاء وكتاب العدل، وهو كذلك محترم مقدر لدى الشعب السعودي بعامته، ولقد تنقل هذا الشيخ رحمه الله في مناصب كلها ترفع الرأس، وتبيض الوجه، وتورث الغبطة. والشيخ مع ذلك يملك قلماً سيالاً، وله من الذكريات والتجارب والمواقف مايمثل ملاحم أدبية، وقد بدأ ينشر جزءاً منها في حلقات ماتعة في جريدة الوطن، إلا أنها مع الأسف توقفت، وقد ناقشته في اسباب توقفها ولما لم يواصل في نشرها، فقال لي: إن شاء الله قريباً، اما التوقف فهو امر مؤقت حسب رغبة الجريدة، وياليتها لم تتوقف، وآمل ان تكون مكتوبة لدى الشيخ، وأن ترى النور قريباً. دعاني رحمه الله قبل أكثر من ثلاثة اسابيع للمشاركة في دراسة قضية العنوسة وغلاء المهور، وحضرت ذلك الاجتماع، وجاء الشيخ الوقور كعادته، وافتتح اللقاء، ودعا للجميع، وتحدث عن اهمية التعاون والتكاتف لحل قضايا المجتمع، والاهتمام باحوال الاسرة. ثم استضافنا للغداء، وكان لقاءً جميلاً باسماً، يتجلى فيه تواضع الشيخ ولطفه، وقد كنت اداعبه ببعض القصائد الشعرية الضاحكة، وهو يضحك ويتهلل ويستزيد من ذلك، ثم أخذنا معه في جولة كاملة على كل أقسام وصالات مجلس الشورى، وفي أثناء اللقاء المنعقد، ولما رأيته في الشيخ وفي الحاضرين من الحب للخير والاهتمام بقضايا المسلمين ثارت قريحتي بأبيات كتبتها في نفس الجلسة وقرأتها على الشيخ، فسر بها وشكر، وقد مازحته قائلاً: ياشيخ ترى الكسوة عليك، وترى أنا ما أنا طماع، لو ما يأتي منك إلا شبح، فكان رحمه الله يضحك، ويقول: «أثرك متواضع ما شاء الله»، وكان معنا رئيس اللجنة الإسلامية الشيخ الدكتور صالح العلي، وفضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن منيع، ثم قرأت القصيدة عليه بعد أن هذبتها وقومتها وذلك في مكة المكرمة، ومنها:
وقبل حوالي أسبوعين قدم الشيخ إلى مكة للمشاركة في المجمع الفقهي، فاستضافه الأخ العزيز سليمان الزايدي عضو المجلس، فحضرنا في ليلة هادئة ماتعة، والقيت على الشيخ كثيراً من القصائد، وهو يستزيد ويتفاعل، ثم طلب مني عدداً من مؤلفاتي، فقال له الأخ سليمان: أنا كفيل بإيصالها لك الى الرياض يا شيخ، ولم يكن يعلم رحمه الله أنه لن يراها ولن تراه، ولن نراه بعد ذلك، وتتابع حديث السمر الفياض في تلك الليلة، فقرأت على الشيخ مقطعاً من قصيدتي الربانية في الثناء على الله تعالى، وهي مائتان وثلاثة وأربعون بيتاً، فأنشدت منها حوالي عشرين بيتاً خشية الإطالة وتوقفت، فأبى الشيخ إلا أن أتمها، فقرأت منها حوالي خمسين بيتاً أخرى، وكان يكبر ويسبح ويمجد، وتتهلل قسمات وجهه تفاعلاً مع مدح الواحد الأحد. وقد كان الشاعر الشعبي الأخ محمد الذويبي حاضراً اللقاء، وحيا الشيخ بقصيدة جميلة وأسمعه بعض قصائده الأخرى. وألح الحاضرون عليّ أن أسمع الشيخ قصيدتي في تعدد الزوجات، وهي القصيدة الفكاهية المعروفة التي أشغلتني في كل لقاء وكل مجلس، فلم يتمالك نفسه من الانفعال والضحك، يقول الأخ سليمان: ما رأيت الشيخ ضحك كهذا اليوم، جزاك الله خيراً، لقد آنسته وآنستنا جميعاً. وبعد ليلتين كنا في ضيافة الشيخ الكريم فراج العقلا في العوالي، ومجالس الشيخ فراج حفظه الله من المجالس التي تكسوها أبهة العلم، وتخيم عليها غيمة الأدب والشعر، وفنون المعرفة، وقد حضر جمع من العلماء والأدباء والفضلاء، وكذلك الحال دارت الأحاديث الماتعة والقصائد الرائعة، ثم اعتذرت للشيخ قائلاً له: لقد أكثرت عليكم، وأرهقتكم بكثرة القصائد، فقال لي: لا والله أبداً، كلامك جميل لايمل، وكانت ليلة جميلة بكل معاني الكلمة، ولم أكن أعلم أنا والإخوة الحاضرون أن ذلك السمت الهادئ، واللقاء الهانئ سيكون آخر العهد بالشيخ، ولكننا نسأل الله تعالى أن يجمعنا به في جنات النعيم.
وإنني أرفع التعازي إلى مقام خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، وولي عهده الأمين والنائب الثاني حفظهما الله وإلى الأسرة المالكة، وإلى المسلمين عموماً، وإلى ابنائه واخوانه وأقاربه وأهل بيته خصوصاً، وأسأل الله تعالى أن يجبر مصابهم، وأن يحسن عزاءهم.. إنه سميع مجيب.. د. ناصر بن مسفر الزهراني إمام وخطيب جامع سماحة الشيخ ابن باز بمكة والمشرف على مجمّعه الخيري والمدرس بجامعة أم القرى ورئيس لجنة العفو وإصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الرئيسية]
|