Monday 21st January,200210707العددالأثنين 7 ,ذو القعدة 1422

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أوروبا في طريقها للخلاص من الهيمنة الأمريكية
رضا محمد العراقي

شغلت الحرب الدائرة رحاها في أفغانستان الكثير من المراقبين وخطفت أبصارهم نحوها، حتى مرّت عليهم قرارات هامة وأحداث جسام دون الالتفات إليها أو التعليق عليها.. ويبدو أن الانشغال بكل ما هو أمريكي أمسى همّ الكثير من المحللين لدرجة من الاهتمام أطبقت على أعينهم العالم من منظور أمريكي بحت.
فقد كانت أوروبا على موعد مع القرار التاريخي في حياة اتحادها الوليد، ذلك القرار الذي تأخر عقداً من الزمن في إقراره، لكن الأوروبيين استطاعوا بكل جسارة اتخاذه والوقوف في وجه الولايات المتحدة وحلف الناتو.
إنه القرار الخاص بإنشاء قوة عسكرية أوروبية لتحقيق الانتشار العسكري السريع في أزمات وقضايا القارة وكان مبعث قدوم الاتحاد الأوروبي على اتخاذه ذلك الفشل الذي منيت به أوروبا في عملية الانتشار العسكري في كوسوفو، وأظهر مدى الحاجة إلى سلاح الطيران الأمريكي والتكنولوجيا الأمريكية لتنفيذ عملية عسكرية محدودة في عقر دار الاتحاد. وقبل كوسوفو كانت البوسنة والهرسك حيث حسمها التدخل الأمريكي المباشر في الأزمة.. لذلك خرج تصريح وزير الدفاع البريطاني ليعبر عن حالة الفشل والإخفاق لدى القوة العسكرية الأوروبية إذ قال: «إن الدول الأوروبية ما زالت غير قادرة عند الحاجة، على أن تضع على أهبة الاستعداد أكثر من 2% فقط من مجموع قواتها العسكرية في أي مساحة حربية».
وللحقيقة فالرجل محق في كلامه، فقد أثبتت كوسوفو هذا العجز بوضوح.. فمع وجود مليون جندي جاهزين لهذا الغرض كافح الأوروبيون لتحريك 40 ألفا فقط لمسرح الأحداث وشاركت طائرات الاتحاد 40% من الغارات بينما نقلت الطائرات الأمريكية أكثر من 80% من الأسلحة، ووفرت بالكامل كل ما يتعلق بالاستخبارات وإعادة التزود بالوقود في الجو، والذخيرة الموجهة بدقة.
هذا الفشل كان الدافع الرئيسي للاتحاد الأوروبي في تشكيل القوة الموحدة لتكون بداية لمرحلة طويلة لاعتماد أوروبا على قوتها الذاتية في مواجهة الأزمات الساخنة.
كما جاء تشكيلها ليؤمن لدول الاتحاد قوة ضاربة جاهزة للتدخل السريع مقدارها 60 ألف جندي ستكون جاهزة في مدة أقصاها عام 2003 وستعمل فوراً في عمليات إدارة الأزمات. الأمريكيون قرأوا خلفيات القرار واستشفوا نتائجه وعلموا من خلاله بنوايا اتحاد أوروبا، لذلك أعلن وزير الدفاع الأمريكي السابق أن هذا التوجه سيجعل حلف الناتو «قطعة أثرية».. وقد خرج هذا التصريح ليعبر عن مدى الإحباط الذي عانق الإدارة الأمريكية من جراء هذه القوة التي ستكون سببا رئيسيا في تفكيك حلف الناتو، وإفلات الأوروبيون من الهيمنة الأمريكية عليه. وقل حاول «خافيير سولانا» رئيس الحلف امتصاص الغضب الأمريكي وتهدئته فقال: إن الاتحاد الأوروبي لا ينشأ جيشاً أوروبياً.. وأن القوات الأوروبية للتدخل السريع لا تنافس الحلف بل ستتعاون معه بشكل كامل»!!
غير أن رئيس الأركان الفرنسي الجنرال جان بيير كيلشي قطع الطريق على سولانا والأمريكان معاً وقال بشكل قاطع: إن قوة الرد السريع الأوروبية يجب أن تكون مستقلة عن حلف الأطلسي «الناتو» ولها هيئة التخطيط الخاصة بها. وأضاف: إنها من المحتمل أن تثير استياء الولايات المتحدة وبريطانيا، موضحا أنه حتى لو لم يتم التوصل لاتفاق مع حلف شمال الأطلسي ستكون القوة جاهزة للعمل ولدينا جدول أعمال، ثم استرسل: ليكن واضحاً أنه بحلول نهاية عام 2001م يجب على الاتحاد الأوروبي أن يعلن عن أن لديه قوة جاهزة للعمليات.. وكانت الولايات المتحدة قد مارست ضغوطاً مضادة فور ظهور المحاولات الأوروبية الأولى بتكوّن نواة فيلق أوروبي من قوات فرنسية وألمانية.. وتصاعدت تلك الضغوط بعد إعلان الاتحاد عن تشكيل قوته.
فقد رأى كثير من المراقبين الأمريكيين أن في مبادرة أوروبا بإنشاء قوتها العسكرية يمكن نشرها ودعمها في الميدان على أنها خنجر في قلب الناتو.. وقال جون بولتون المقرب من الرئيس بوش: يجب إعادة النظر في العلاقات مع بريطانيا في إطار هذا الجيش الأوروبي!! وعلينا أن نطرح عليهم السؤال بوضوح: هل أنتم معنا أو معهم؟!.
هذا التساؤل الأمريكي الخاص ببريطانيا تحديداً، وهي الشريك الكامل لأمريكا في كل عملياتها العسكرية الخارجية جعل السجال داخل المملكة المتحدة على أشده.
فقد دار سجالاً بين تاتشر رئيس الوزراء الأسبق وتوني بلير رئيس الوزراء الحالي.. حيث جاء هجوم تاتشر ضمن سلسلة من المقالات لكبار القادة العسكريين المتقاعدين الذين أدانوا قوة الرد السريع ووصفوها بأنها تقوض حلف شمال الأطلسي وتثير الشكوك في الولايات المتحدة.
وقالت تاتشر إن هذه الخطط ليست سوى حماقة كبيرة تعرض أمننا للخطر من أجل إشباع الغرور السياسي.فيما شن بلير حملة مضادة منتقداً تاتشر ومتهما بعض الصحف بعدم النزاهة فيما تنشره حول القوة الأوروبية وقال: ما ظهر حول الدفاع الأوروبي في بعض قطاعات وسائل الإعلام يصل إلى حد يتنافى بالفعل مع العقل، موضحا: أننا مضطرون اليوم للتعامل مع المشكلات التي ورثناها «إشارة إلى سياسات تاتشر» واننا بحاجة اليوم إلى التواصل مع أوروبا بأسلوب عصري وواقعي.وعبر الرد الألماني عن مستوى قوته السياسية والاقتصادية فكان حاسماً وقاطعاً حيث قال وزير خارجية ألمانيا «ستكون قوة الرد السريع خطوة للأمام باتجاه سياسة الدفاع والأمن المشتركة للاتحاد الأوروبي.. إذ يجب على أوروبا أن تكون مستعدة للنهوض بمسؤولياتها». كما قال المستشار الألماني في معرض إجابته في حوار صحفي معه حول أسباب التحفظات الشديدة التي يبديها المسؤولون العسكريون والأمنيون الأمريكيون حيال إنشاء قوة عسكرية أوروبية.. قال شرودر: لا أفهم سبب تلك التحفظات في الواقع، إذ أن الولايات المتحدة كانت تطالب الأوروبيين منذ أمد طويل أن يكونوا في وضع يمكنهم من التحرك في حالات إندلاع نزاعات اقليمية في القارة الأوروبية!!.
القلق الأمريكي من القوة العسكرية الأوروبية له مسوغاته فهو لا يهدد فقط تفكيك حلف شمال الأطلسي ووضعه في خريطة النسيان أو كقطة أثرية، لكن القلق الأمريكي يزداد في تنامي الهوة في الرؤى مع الشركاء الأوروبيين في القضايا الاستراتيجية والدولية.والأمريكيون يخشون أن تتسع الخلافات والرؤى أكثر فأكثر في ظل وجود قوة عسكرية مستقلة وقد تصل في المستقبل إلى التناقض والتناحر!!
لذلك حرصت الولايات المتحدة على ضبط النفس ورد الفعل وأصرّت على بقاء حلف الناتو تحت قيادتها العسكرية مع حرصها في نفس الوقت على استمرار التقارب والشراكة مع الدول الأوروبية أو على أقل تقدير بعض دولها مثل إيطاليا وألمانيا مع المضي قدماً في مشروع الدرع الدفاعي الصاروخي.. لكن الاتحاد الأوروبي يصر من ناحيته على الاعتماد على نفسه واستقلاله تكنولوجيا عن الولايات المتحدة خصوصا في المجالات التي ظهرت جلياً إبان حرب كوسوفو مثل القيادة والسيطرة والاتصالات والكمبيوتر والاستخبارات والمسح والاستطلاع.. وقد أدى اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة إلى تقليص نفوذ أوروبا وبخاصة في مجال تحديد أهداف الضرب.. ولهذا تبلور هدف مشترك للأوروبيين بامتلاك قدرات مستقلة على الاستطلاع والتقييم الدقيق.. وفي إطار هذا الجهد أطلقت فرنسا عامي 5 9 1999م قمرين للاستطلاع بمشاركة إيطالية يبثان 100 صورة يومياً. ويتضمن البرنامج الأوروبي حالياً إطلاق القمر الصناعي الفرنسي «هيليوس 2» وهو قمر عالي الدقة لالتقاط الصورة.. وهناك أيضا مجمع الرادار القمر الصناعي «سارلوب» الذي تعكف ألمانيا على تطويره.. ومن ثم سيكون التعاون المخابراتي بين دول الاتحاد فعالاً جداً.. كما تسعى إيطاليا في نفس هذا الإطار إلى تطوير قمر صناعي مدني عسكري للصور عالية الدقة «كوزمو سكاي ميد».
وتهدف أوروبا من ذلك إلى خلق أجواء مستقلة في ظل وجود عسكري خاص بها في الأرض والفضاء يوفر لها قناة مضمونة عند الطلب للعمليات المستقلة. ويضمن لها أمن البث والاتصالات.. فذلك بداية الطريق للانعتاق من السيطرة والهيمنة الأمريكية عليها وعلى الناتو!!.
وفي غرة هذا الشهر وبداية العام الميلادي الجديدة كانت أوروبا مع موعد جديد، وهدف كانت تسعى إليه منذ عقدين بتكوين عملة أوروبية موحدة وتحقق لها ما أرادت.. حيث كان خيالاً فحلماً فواقعاً يمشي الآن على الأرض.. وفي الشهر الماضي حددت أوروبا في قصر «لاكين» ببروكسل تحويل الاتحاد من منظمة اقتصادية سياسية إلى منظمة اقتصادية وسياسية وعسكرية لتكون في بؤرة الأحداث ورقما صعباً في كل القضايا الدولية الساخنة.. كما عبر عن ذلك رئيس الوزراء البلجيكي «جي غير هوفشتات» الذي ترأس بلاده الاتحاد حالياً.. هذه بداية حوار حول مستقبل أوروبا بدون محظورات».
هنيئاً لأوروبا عملتها الجديدة الموحدة.. وهنيئاً لها القوة العسكرية، الجديدة التي ظلت تكافح طيلة ثلاثة عقود من أجل إنجازها.. لتكون بذلك أهم وحدة في العصر الحديث.
أهم وحدة لأنها تلاقت بعد شتات، وتجمعت مع دول لا تجمعهم سوى الجغرافيا.. حيث لا تاريخ مشترك ولا لغة واحدة ولا دين واحد ولا عرق واحد، لكنهم توحدوا مع كل التاريخ الدموي بينهم وملايين الضحايا والقتلة.. تناسوا كل ذلك وجمعوا كلمتهم ولملموا شتاتهم في منظمة واحدة ستكون لها الكلمة الفصل في السنوات القادمة.. وستكون لها ضلع وزاوية في كل القضايا الدولية الساخنة.
ونعزي أنفسنا، لأننا نملك أكثر مما يملكون، وعوامل نجاح وحدتنا أكثر واقعية منهم ورغم ذلك أبينا أن نكون وحدة أو نصنع اتحاداً. بل أبينا على أنفسنا أن يكون لنا قرار واحد لقضية مشتركة.
وأخشى بل أزعم أن يكون غياب الوحدة في ظل العولمة أن تزيد من ضعفنا، وتضعف من قوتنا.. وستؤخرنا عقوداً إن لم نكن قد تلاشينا مع قوة الأحداث والعواصف التي تهب على العالم الآن.
وما حدث في أواخر العام الماضي من أحداث جسام ما هي إلى مقدمة للكثير من الزلازل والعواصف السياسية التي تقتلع من يقف وحيداً شريداً.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الرئيسية]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىmis@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved