| مقـالات
عاماً بعد عام، ومع كل قدوم لشهر رمضان المبارك، نكتب ونتحدث ونقرأ عن الجوانب الدينية والشرعية، والمنح الربانية التي وهبها سبحانه وتعالى لعباده في شهر رمضان المبارك، والتي من أجلها فضل هذا الشهر على سائر الشهور, كذلك فإنني أظن أن هناك العديد من الدراسات التي تناولت الحياة الاجتماعية للمسلمين على تنوع أزمانهم وأقطارهم خلال هذا الشهر إلا أنني أظن أيضاً أننا لم نقم بعد بدراسة الحياة الوجدانية والمزاجية والنفسية للإنسان المسلم خلال شهر رمضان، أو بمعنى آخر لم نقم على نحو شبه علمي بمعرفة الكيفية الوجدانية التي ينظر بها الإنسان المسلم إلى العالم والأشياء خلال شهر رمضان المبارك, إنه يصلي ويصوم ويقوم الليل ويصل الرحم، ويتبتل، ويتهجد,, كل هذا صحيح لكنه ناقص,, هناك شيء ما، كيمياء غامضة أصلها ديني بالطبع، تجعله يرى الأشياء أو تجعل الأشياء تبدو على نحو مخالف, فإذا كان صحيحاً ما يقوله بعض الشعراء من أن لبعض الأيام طعماً أو لوناً أو رائحة فإن أجدر الأيام بذلك هي أيام شهر رمضان المبارك، فكلها أيام عبقة، حلوة، مزدانة بالألوان، تغمرها وتغمرنا فيوض من الخيرات غير المرئية، تعطي للدنيا ذلك المذاق الفريد.
فما أن تثبت الرؤية، رؤية الهلال المبارك، حتى تنطلق في جنبات الليل والنهار مجموعة من الأصوات والألوان والظلال، تتماوج وتتداخل وتتمازج مع مجموعة أخرى من الذكريات والحكايات والمشاعر، لتشكل هذه مع تلك صورة عالم كامل، جميل وأخاذ، يحتويك، ويحيط بك إحاطة السوار بالمعصم.
وهذا العالم، عالم رمضان، عالم قديم، موغل في القدم لكنه يتشكل أمام عينيك في كل عام، وكأنه يولد لأول مرة، بل إنك أنت تتابع انبعاثه قبل أن يصبح هلالاً، وأنت مبهور الأنفاس ممتلىء بالفضول وكأنه من الممكن ألا يجيء.
وما أن تثبت الرؤية حتى يمتد خط وهمي صارم يقسم عالم رمضان إلى عالمين، عالم النهار، وعالم الليل,, وما أن يؤذن لفجر أول أيام رمضان، حتى يصبح الأذان، ومن ثم الصلاة ليسا مجرد أداء لفريضة الصلاة، ولكنهما يصبحان مدخلاً إلى عالم النهار، وما أن يؤذن لصلاة المغرب في أول أيام رمضان حتى يصبح الأذان ومن ثم الصلاة، والإفطار، مدخلاً لعالم الليل,, وكلاهما عالم النهار أو الليل، عالم كامل مليء بالرموز والتفاصيل والإيماءات والعلامات، وفي كلاهما تأخذ كل الأشياء طعما مخالفاً لطعمها في سائر الايام.
في أيام رمضان ولياليه، التي تصفد فيها الشياطين، ستلاحظ أن في الأركان والزوايا، لمسات يتداخل فيها الواقع مع الحلم، وستنبعث في نفسك أصداء للماضي والتاريخ، وتراجيع للحكايات والأساطير التي سمعتها منذ أعوام بعيدة، ستبعث تلك الحكايات حية صاخبة في نفسك حتى أنه سيكون بوسعك أن تلتقي بأحد حمالي ألف ليلة وليلة أو بعلاء الدين أبي الشامات، إذا ما سرت في حارة خافتة الضوء من حارات الديرة.
في رمضان، ومهما كنت واقعيا وعملياً، ستلاحظ أنك من الممكن في بعض اللحظات، ولن تكون بالضرورة لحظات تعبد، ستلاحظ أن لمسات من الشفافية، وربما من الوجد تتسلل إلى روحك، فتمد يدك بالحب إلى سائر الكائنات.
هل بالغت؟ لا بأس، من الجائز أن أكون قد فعلت، لكني ما زلت أقول: إن هذا الشهر المبارك الكريم قد فعل فينا عبر السنين شيئا ما، حتى صرنا إذا مااحتوانا نتحول إلى اناس مختلفين.
وكل عام وأنتم بخير.
|
|
|
|
|