أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 14th October,2000العدد:10243الطبعةالاولـيالسبت 17 ,رجب 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
رسالة أبي الخطاب الصابي في وصف حَمَلٍ أُهدي إليه
د, محمد العيد الخطراوي
هذا النص يمثل لونا من ألوان الرسائل الإخوانية الهازلة في تراثنا، ويهدف هذا اللون إلى اشاعة الفكاهة في المجتمع، وكسر حدة الجد، وهي فكاهة تحاول أن تخالط الشغاف بما تتضمنه من مفهومات تربوية مستخفية داخل العبارات الضاحكة، ولعلنا إذ نقرؤها بتمعن نلمس فيها ما أشرنا إليه, كتب ابو الخطاب الصابي إلى الحسين بن صبرة جوابا عن رقعة أرسلها إليه في وصف حَمَلِ أهداه إليه، جاء فيها:
(نهاية الأرب 10/128):
(وصلت رقعتك، ففضضتها عن خط مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنه عبدالحميد في كتابته، وسَحبان في خطابته).
هكذا يبدأ الرسالة بامتداح مرسلها في بيانه، مفضلا اياه على الكاتبين المشهورين، ثم ينتقل الحديث به عن الحَمل، فيقول: (وذكرتَ فيها حَمَلاً ، جعلته بصفتك جملا، وكان كالمعيدي أسمع به ولا أراه, وحضرَ، فرأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد افنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته احد الزوجين اللذين حملهما نوح في سفينته، وحَفظ بهما جنس الغنم لذرّيته، صغُر عن الكبر، ولطف في القدر، فبانت دمامتُه، وتقاصرت قامتُه ، ويواصل وصفه في جمل متتابعة، قائمة في عامتها على المبالغة في الوصف بالضآلة والهزال والضعف,, فيقول: (وعاد نحيفا ضئيلاً، بالياً هزيلا، باديَ السقام عاريَ العظام، جامعاً للمعايب، مشتملا على المثالب، يَعجب العاقل من حلول الروح فيه، لأنه عظم مجلّد، وصوفٌ ملبّد، لا تجد فوق عظامه سلَباً (السلبَ: ما على الرجل من لباس، ويريد به هنا اللحم، لأنه يكسو العظم ويستره)، ولا تلقى اليد منه إلا خشبا)، ثم يشير إلى ان سبب هزاله هو فقده للأكل، والحيلولة بينه وبين المرعى: (لو ألقي للسبع لأباه,, أو طرح للذئب لعافه وقلاه، وقد طال للكلأ فقدُه، وبَعُد بالمرعى عهدُه، لم يَر القتّ (العلف من النباتات) إلا نائما، ولا الشعير إلا حالما، ثم يذكر انه لسوء منظره ومخبره لا يصلح للذبح ولا للاستبقاء: (وقد خيّرتني بين ان اقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الشهر، فملت الى استبقائه، لما تعلمه من محبتي في التوفير، ورغبتي في التثمير، وجمعي للولد، وادِّخاري لغَد، فلم أجد فيه مستمتعاً للبقاء، ولا مَدفعاً للغناء، لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتيٍّ فينسُل، ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى، فملت إلى الثاني من رأييك، وعملت بالآخِر من قوليك)، ثم أورد حواراً لطيفا مع الحمل الذي ارتاع من الرأي القاضي بذبحه، وفضل العيش على ما فيه من جوع وإهمال، وكأنما ابوالخطاب أراد بهذا الإيراد اللفت إلى مزية الحياة عن الموت، فيقول: (وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، واقيمه رطبا مُقام قديد الغزال، فأنشدني وقد أضرِمت النار، وحدِّدت الشفار، وشمَّر الجزار:


أعيذها نظرات منك صادقةً
أن تحسب الشحم فيمن شحُمه ورَمُ

وما الفائدة لك في ذبحي، وإنما أنا كما قيل:


لم يبق إلا نفَسٌ خافتُ
ومُقلةُ إنسانُها با هتُ

ليس لي لحم يصلح للأكل، فإن الدهر أكل لحمي، ولا جلد يصلح للدبغ، فإن الايانم مزقت أديمي، ولا صوف يصلح للغزل، فان الحوادث حصَّت وبَرِي (اي حلقته وأذهبته)، وإن أردتني للوقود فكَفُّ بغرٍَ أدفأ من ناري، ولم تف حرارةُ جمري برائحة قُتاري (القُتار: دخان المطبوخ)، ولم يبق إلا ان تطالبني بذحلٍ، (الذّحل: الثأر)، أو بيني وبينك دم), هذه مقالة الحَمل، وهذا تحذيره لأبي الخطاب، فما موقف ابي الخطاب منه؟ (فوجدته صادقا في مقالته، ناصحا في مشورته، ولم ادر من اي اموره اعجب، أمن مماطلته الدهر على البقاء,؟ ام من صبره على الضرّ والبلاء؟ أم من قدرتك عليه مع عَوَز منك؟ ام من اتحافك الصديق به على خساسة قدره!)، ثم توجه إلى صديقه باتهامه بالبخل المتأصل فيه، فرغم وجود الكباش السمينة لديه عمد إلى إهدائه هذا الحمل الهزيل، وهو ذو ولاية على سوق الأغنام، يختار منها ما يشاء(فياليت شعري إذا كنت واليَ سوق الأغنام، وامرك ينفُذ في المعز والضأن، وكلُّ حمَل سمين، وكبش بطين، مجلوب إليك، وموقوف عليك، تقول فيه فلا تُردَ، وتريد فلا تُصدّ، وكانت هديُتك هذا الذي كأنه أُنِشر من القبور، واقيم عند النفخ في الصُّور، فما كنتَ مُهديا لو انك رجل من عُرض الكتّاب كأبي علي وأبي الخطاب؟ ما تهدي إلا كلبا أجرب، أو قرداً أحدب), إن هذه الرسالة رغم عدم النص على عصرها، لا أظنها إلا عباسية عاصرت الجاحظ، ففيها السجع غير المتكلف، وفيها الجزالة اللفظية، وفيها التنديد بالبخل والبخلاء، وفيها روح الفكاهة، وفيها التوسع في جعل كل الموضوعات قابلة لأن يدار حولها حديث أو يكتب مقال.
ويستغل بعضهم الكباش في مجال الهجاء فيقول:


كأنك بعرة في ذيل كبش
مدلاةٌ وذاك الكبش يمشي

فإذا ما وصلنا الى الشاعر السعودي المعاصر الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد، وجدناه يوظف شياهه توظيفا جديداً رائعا في ديوانه (حروف من لغة الشمس ص 78) فيقول:
جَرجرني الجازر صوب مذبح الشياه
فصحت: يا بني عمومتي
هذا دمي التبر سيضحي سلعة للأنفس الأثيمة
جاء بنو عمومتي,, جاؤوا يدقون الحصى، ويزبدون,, يرُعدون,, يوعدون باللظى والغضبة الأليمة
لكنهم جاءوا وقد ماج الثرى دماً دماً، فباركوا وشاركوا القاتل في الوليمة.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved