| الثقافية
علاقة الشعر العربي الحديث بالتراث، ومدى ارتباطه به، والصلة بينهما، وقراءة وتقييم هذه العلاقة والصلة والارتباط، قضايا ينتج عن الحديث عنها دلالات وأبعاد أكثر شمولية وعمقاً وحساسية من مجرّد الاشارة إلى هموم جماليّة وذوقيّة وثقافيّة ترفيّة بالنسبة للانسان العربي الجديد,وعندما يوصف الشعر العربي بالحديث فهذا يعني الشعر العربي الذي ظهر وانتشر في النصف الثاني من القرن العشرين، وما يزال، وليس المقصود الشعر الذي مارس التقليد والمحاكاة وعاد بنا إلى الوراء ألف سنة باسم الإحياء والذي كان أبرز متعاطيه البارودي وشوقي ومن تلاهم من المقلّدين، سواء من صاروا مسخاً عن الشعر العربي القديم أو عن الشعر الغربي ومدارسه التقليدية، وبكل فئاتهم ومدارسهم من ديوان وأبوللو ومهجر ورومانسية ورمزية أو سريالية بدائية .
هذا الشعر الحديث والذي لم يكن تقليداً ولا لقيطاً من فنون جلبها الاعجاب الأعمى والانبهار بالآخر والاستغراب والاستلاب والاحساس بالدونيّة هي أكثر أصالة وصدقاً وارتباطاً بالأمة وتراثها وهويتها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وله جذور أكثر عمقاً ينتمي إليها ويرتبط بها، حضارة وثقافة ولغة وأساليب وسياقات وأنساقاً، وليس عن طريق المحاكاة والتقليد للقديم، بل تنمية وتطويراً لأجمل ما فيه من إبداعات، وتجاوزاً وإضافة وتجديداً لها، من خلال رؤاه الجديدة إلى نفسه وإلى الوجود وطرقه الجديدة والمبتكرة في مقاربة ذلك ومجادلته والتعبير عنه، موظّفاً كل ما مرّ على البشريّة من تطوّرات وتحوّلات وتغييرات أعادت تشكيل كيانها كلّه خلال القرون الأخيرة، مجدّدا في مواقفه الحياتية وفي مواقفه الفنيّة من قضايا معقدة واكبت الشعر العربي منذ بداياته حتى الآن، وبرزت أكثر في القرن العشرين مثل: الفرق بين الشعر والنثر، وماهية الشعر ومفهومه ووظيفته، وعلاقته بالموسيقى والايقاع، وجدلية القصيدة/ الشعر/ النثر، والأصالة والالتزام والصدق والوضوح والغموض والابهام وعناصر الشعرية وأدواتها اللغوية والبلاغية وتقنياتها وعلاقتها بالفنون الأخرى وصلة الشعر بالمبدع وبالقارىء وبالعلوم الانسانية وتطورها وما جدّ عليها وبالفلسفة وبالواقع وبالجسد وبالروح، حتى أصبح الشعر تجربة حياتية لغوية فنيّة تحمل موقفاً يجسّد رؤية جديدة إلى الانسان وما يحيط به، وبها يحقّق وجوده الفنّي والانساني الحرّ، وانتماءه إلى قوميّته وانسانيته وإلى الثقافات والحضارات التقدمية الجديدة، ولأن الشعراء، وعلى مر العصور وفي مختلف الأمكنة هم من يحملون على عاتقهم الفنّي أعباء الرؤية والاستشراف ويحاولون التعبير عن ذلك بطرائق غير مسبوقة، ومستقبلية وصادقة في الآن نفسه، فقد كان على الشعراء العرب الذين بدأوا مسيرة التحديث منذ منتصف القرن العشرين، أن يحملوا لواءين في وقت واحد، لواء التجديد الشعري ولواء الدفاع عن هذا التجديد ومحاولة تقريبه الى القارىء العربي وتجديد ذائقته التي أكل عليها التراث وشرب، معتمدين على ثقافة إنسانية شاملة قلّما توافر عليها شاعر عربي قديم أو شعراء، ومحاولين شعراً وتنظيراً اثبات ان ما أتوا به ليس نقضاً للقديم بل إغناء له وإضافة إليه، بعدما مزج وتأصل كل ما تمّت الاستفادة منه من فكر وتراث وفنون الأمم الأخرى، دون تقليد أو تبعيّة، بل سعيا الى تحقيق ما يصبون إليه من احساس حقيقي بوجودهم الخاص وحريتهم وأصالتهم في رؤاهم ومواقفهم وأساليبهم، ومجدّدين في انتاجهم الابداعي دون قيود سابقة تعوق حركتهم الابداعية ونموّهم الثقافي والفكري والحضاري وتطورهم الانساني روحياً وجسدياً، وفي المضامين والأشكال المتحررة من كل قاعدة أو عرف أو سياق سابق، وفي إبداع بكر دون وصاية أبويّة على الرغم من أصالته التي تحمل في نسيجها وتتفاعل ملايين الخلايا والميكروزومات من الماضي والحاضر والمستقبل في الآن نفسه ومن مختلف الأمكنة والثقافات بعد أن توحّدت في نص ينبض في عروقه وتتلاقح جينات البشرية وكل ما حققته في عصورها الطوال، مستفيداً في وحدته وشكله النهائي كتابيا من كل ما تم إنجازه في الماضي وهو يجادل الحاضر والمستقبل وانسانهما ويسعى إليهما وليس إلى الماضي الذي هضم عصارته وتمثّلها وذابت في كريات دمه بعد أن تمّت تصفيتها من شوائب فكرية وعرقية ونمطية وقواعدية ونفض ما علق بها من غبار أحاط بها من ظلال ليست من جوهرها ولا ترقى إلى حقيقة ماهيتها ونقاء إبداعها,وعلى الرغم من قناعة الشعر العربي الحديث في بداياته بضرورة تجاوز الماضي، إلا انه لم يستطع تجاوز ما في بعض هذا الماضي من ومضات فكرية وابداعية رائعة، يُشكّل الحاضر والمستقبل، في تحولهما وصيرورتهما وفي وجه من وجوههما استمراراً حتمياً لحقائق وقضايا جوهرية فكرية وفنيّة كانت الزند الذي قدح تلك الومضات وشكّل لسعات برقها الخاطف وما حوته من إضاءات تُشير إلى ما ورائها من رؤى ومواقف طليعية وتقدميّة ورائدة في حينها، وما لاحظه من أن تلك الاضاءات القديمة لها نصيب من نصوصه الجديدة مما يثبت أصالتها وانتمائها وأصولها التراثية المنتقاة، وعبر كافة التقنيات الحديثة للتعامل الشعري مع التراث, ولأن الشاعر العربي الحديث أكثر وعياً وثقافة وأوسع أفقاً من القديم، فلم يقرأ التراث بأساليب تمت بواسطتها قراءة هذا التراث ومقاربته في زمنه، بل اعتمد اساليب قراءة ومقاربة حديثة وجديدة ومعاصرة لمجادلة كل قديم ضمن شروطه التاريخية، فنياً وحضارياً واجتماعياً وفكرياً وظروف انتاجه في وقته وعلاقته بالحاضر والمستقبل.
|
|
|
|
|