| الثقافية
تبدو رواية إتش,جي, ويلز جزيرة الدكتور مورو رواية أثيرة لدى المخرجين السينمائيين، وهي تذكرنا بذلك الاهتمام النادر الذي تلقاه بعض الأعمال، مثل فرانكشتاين لماري شيلي، ود, جايكل ومستر هايد لستيفنسون، التي قدمتها السينما مرات عديدة خلال هذا القرن، وبدا وكأنها روايات لا ينضب نبعها، وهي تواصل تجددها، وتوسع رؤاها من مخرج إلى آخر، دون توقف.
وبين فرانكشتاين و جزيرة الدكتور مورو أكثر من خيط، حيث طموح العلم بأن يقهر الطبيعة ويلوي عنقها دون رحمة أو اعتبار لما يمكن أن تؤول إليه الأمور, لكن المفرح في الروايتين أن الجموح المجنون يصل إلى نهاياته الحتمية, أما المخاوف نفسها التي تثيرها هذه الأعمال، فإنها لا تنطفئ أبداً بعد مغادرة الصالة أو الانتهاء من قراءة الكتاب، فثمة جنون الآن أكثر خطراً لأنه أكثر معرفة مع ذلك التقدم المذهل في مختلف العلوم, لقد كان فيلم فرانكشتاين حينها أقرب إلى مغامرة الخيال في حالة من حالات تجليه القاسية، ولعل رواية جزيرة الدكتور مورو ليست بعيدة عن أفق بصيرة الرواية الأولى، إلا أن عودة السينما لانتاجها لا يعيد الحكاية نفسها، فالحكاية تتخلق في رحم أزمنة أخرى قابلة لاحتضان الفكرة وتحقيقها على نحو أشد رعباً.
في عام 1933 قدمت الرواية في السينما للمرة الأولى، في فيلم بطولة تشارلز لوتون وبيلا لوغوزي وبعد أربع وأربعين سنة أخرجها دون تايلر في فيلم من بطولة بيرت لانكستر ومايكل يورك، وها هو المخرج جون فرانكنهايمر صاحب العدد الكبير من روائع السينما يقدم الرواية من جديد، بمناسبة مرور مئة عام على نشرها، هذا المخرج الذي قدم: الحرب الرابعة، الخيال، سبعة أيام من مايو، القطار، وهو من تحفه الخالدة، وسنة البندقية، الفتى الغريب، وكان قد قدم في عام 61 فيلماً لا ينسى من بطولة بيرت لانكستر هو رجل الطيور في الكاتراز .
نحن إذن أمام مخرج غير عادي، ذي تاريخ سينمائي مشهود، يتقدم نحو رواية مر على نشرها مائة عام، واثقاً من قدرته على بعثها من جديد.
وكما يشير بوب توماس في مقالته حول هذا الفيلم، فإن مرور الزمن والتكنولوجيا الوراثية هندسة الجينات قد خدمت الفكرة التي قامت عليها الرواية وجعلتها أكثر منطقية اليوم، من أي يوم مضى.
يلعب الأدوار الأساسية في فيلم فرانكنهايمر الممثل الكبير مارلون براندو، فال كيلمر، ديفيد ثيوليس، والممثلة فيروزا بالك, وهو يتناول حياة عالم نال جائزة نوبل عن أبحاثه في مجال تطوير الأجناس، ويسعى بلا كلل للفوز بالجائزة مرة أخرى، وذلك من خلال اعتكافه في جزيرة نائية واجراء تجاربه على حيواناتها لمدة سبعة عشر عاماً، حتى لحظة وصول طيار المهمات الانسانية دوغلاس: ديفيد ثيوليس برفقة فال كيلمر الذي يلعب دور مونتغمري في الفيلم، بعد أن استطاع هذا الاخير انتشاله من قاربه المطاطي في المحيط وهو على وشك الموت، ليحضره بالتالي إلى الجزيرة حيث يعمل لدى الدكتور مورو براندو، ويوفر له الحيوانات اللازمة للتجارب.
ينفتح الفيلم على مشهد صراع عنيف في القارب بين رجلين في اليوم السابع من سقوط الطائرة التي تقلهما مع دوغلاس، وسبب الصراع المميت: آخر ما تبقى لديهما من ماء, إلا أنهما يسقطان معاً في مياه المحيط لتنتقل الكاميرا إلى سمكة قرش عملاقة تتقدم نحوهما، في حين تبدأ الأمواج بجرف القارب ودوغلاس الذي فيه إلى حيثما شاءت الريح.
دوغلاس هو الذي يروي حكاية الدكتور مورو، حكايته، وحكاية مونتغمري، وتلك المخلوقات المعذبة التي أجريت عليها التجارب, دوغلاس هذا، الذي يصل الجزيرة مطمئناً لوعد مونتغمري بتأمين سفره على أول سفينة ستصل الجزيرة، بعد أن عالجه، وأعطاه ذلك الحس بأنه انقذ حياته, إلا أن الأمور تسير في اتجاه مغاير تماماً، حيث يتقدم الكابوس بخطى واثقة باتجاه دوغلاس الطيار الشفاف, الذي يرتجف هلعاً أمام قسوة مونتغمري وهو يقوم بقصف عنق أرنب أبيض، بعد أن تغزل فيه، وترك دوغلاس يطبع قبلة على فروه الأبيض!!
هكذا، يبدأ الفيلم مستنداً إلى رمزين، سنجد امتداداتهما العميقة في خط سير الفيلم ونهايته، ونعني هنا: حادثة الاقتتال بين الرجلين في القارب، وحادثة الأرنب هذه.
,, وتقوم كاميرا وليم فراكر بدور رمزي آخر مند بداية الفيلم، حيث حركة الحياة في داخل الخلايا، متقاطعة بصورة سريعة مع عين مشرعة على الرعب, هذه الكاميرا التي لن تتوقف عن العمل في أبهى صوره وأكثرها دلالة، وهي تقدم لنا مارلون براندو في موكبه الذي يطل به على المشاهد، وعلى كائناته التي اعاد بناءها وفق نظريته الجديدة وأبحاثه.
يتقدم براندو في موكبه، بما يليق به أن يتقدم، دوراً وممثلاً، ويعمل المخرج طويلاً للتمهيد لهذا الظهور، الذي يجيء بعد مرور حوالي عشرين دقيقة من بداية الفيلم, ويظل براندو سيد الموقف دون منازع طيلة فترة ظهوره على الشاشة، وهي قصيرة نسبياً، ولا تتجاوز نصف الساعة بكثير، ليعود الوضع في النهاية للفوضى، كما لو أننا نشهد نهاية امبراطورية.
إن الحنو الكبير الذي يبديه الدكتور مورو على كائناته، وتلك الصفة التي تناديه بها الأب والهدوء الواثق الذي يسكن كل حركة يقوم بها، تخفي في طياتها صورة قاسية مظلمة لشخص لا يرحم, متحكم بالريموت بالحيوانات التي حقنها بجينات بشرية، فهو يسيطر عليها بالألم من خلال زرع أجهزة في صدورها.
يروي دوغلاس فصول الحكاية، كابوساً إثر كابوس، وهو يبدو هنا، لمسة انسانية غريبة عن المكان، ومحزنة وهي تحاول تغيير الوضع القائم بالحوار، مشدودة إلى علاقة ناعمة بابنة الدكتور مورو الرقيقة ايزا تلعب دورها فايروزا بالك، هذه الفتاة التي ستتكشف في النهاية، مسفرة عن مخلوق معذب، حيث هي في الأصل قطة، أمام حالة الحب المفاجئة بالنسبة لها, إلا أن بروز أنيابها، يصبح مصدر فزع حقيقي لها، بعد أن أوشكت أن تكون على يقين بأنها ابنة مورو التي لا تشبه البقية في شيء، وأنها الأكمل صنعاً من بينهم!! خاصة إذا ما تأمل المرء الكائنات المطورة عن ضباع وخنازير وقردة وأكباش ونمور, إيزا هذه وعلاقتها بدوغلاس هي اللمسة الأكثر رقة في الفيلم، والتي ستتحول إلى أكثر نقاط الفيلم مأساوية.
وإذا كان في شغف المعرفة، مصدر شقاء دوغلاس، الذي أبى إلا أن يغادر غرفته التي أقفلت عليه، ليتعرف على ما في الجزيرة، فإن المعرفة بالنسبة للحيوانات تشكل أول خطوة على طريق النجاة، فهي تدرك أنها ما لم تتخلص من مصدر الألم، فإنها ستبقى كما هي, يقول سابو القرد: إنه السبب مورو ، عاجلاً أم آجلاً سنصبح جميعنا أشراراً، أو ما هو أسوأ، إننا نحلم بعالم أفضل بلا ألم، ويجب أن نوقفه، لنعود إلى أشجارنا، لاستعادة ما كان لدينا، هذا السحر لا يناسبنا، نحن بشر ولسنا بشرا، حيوانات ولسنا حيوانات، بشر لأن والدنا قد جعلنا كذلك.
وفي مشهد مواجهة دام على المستوى الوجودي يقول الضبع: أبي، أنا أناديك أبي، ولكنني لست مثلك، ولا اشبه أسلافي، أبي لماذا تسبب لنا الألم اذا كنا أولادك؟!!
: أنتم حقاً أولادي، ولكن للقانون ضروراته.
لكن ذلك لا يستمر، حيث تبدأ المخلوقات بالتمرد وينجح أحدها بعد مقتل النمر على يد أحد أبناء مورو المقربين، بانتزاع جهاز الألم.
: لا ألم بعد الآن, لن نخدم سيدنا, القانون للبشر، ونحن لسنا بشراً, سنصيد ونأكل اللحم لا قانون بعد الآن.
وتتبعه كائنات أخرى في تمرده، وحين يفكر الدكتور مورو باستخدام الريموت بعد ان تحاصره، يكتشف انه لا يستطيع ان يفعل شيئاً ، فتقطعه الحيوانات إرباً إرباً،,, وليبدأ فصل الفوضى.
بين هذه المشاهد دائماً هناك مونتغمري، الغامض الخبيث، وهناك دوغلاس الذي نراه طوال الفيلم ممسكاً بالمسدس في يده, المسدس الذي سمح له الدكتور مورو بحيازته، محاولاً ان يطمئنه, إلا أن دوغلاس، لا يوحي بأن حمله للمسدس طوال الوقت جاء خوفاً من المخلوقات، بقدر ما هو خوف حقيقي من مورو ومونتغمري, فالحيوانات حاولت أن تساعده منذ البداية في محاولة هروبه بمعاونه إيزا وعلى اختلاف طبائعها، تظل تحمل درجة ما من الطيبة في علاقتها معه.
يرتفع الفيلم إلى مستويات عالية من المعنى، تتجاوز الجزيرة وما، ومن، فيها، في أكثر من موقف، أهمها ذلك المتعلق بالأبوة المترفعة العالمة القادرة، وتصورها للألم كنوع من العقاب أو القانون، والثاني في ذلك الحوار بين مورو ودوغلاس.
: ألا تشعر بالحر, يسأله دوغلاس فيرد.
: أنا أتضايق منه، لا يمكنني احتمال ضوء الشمس، لو كان الأمر بيدي لأخفيت الضوء عن الأرض.
يحاول مونتغمري أن يأخذ مكان الأب ومكانته بعد موت مورو، إلا أن الحيوانات التي تمردت لم تكن تسعى إلى ايجاد أب جديد, لقد كانت تسعى إلى قتل فكرة الأبوة واجتثاثها من جذورها, وهكذا يُقتل مونتغمري، ويرتفع ايقاع العنف لتبدأ النيران بالتهام الجزيرة، وعلى نحو غير مفهوم تظهر ناقلات جنود تقودها المخلوقات ورشاشات أيضاً، بعد أن كنا طوال الفيلم نشاهد مسدساً في يد دوغلاس وسيارة جيب وحيدة!!.
وينتهي الفيلم بمشهد وداع لدوغلاس، مشهد حزين، ومخلوقات حزينة، حيث يعدها دوغلاس بأن يرسل علماء إلى الجزيرة لمعالجتها مما أصبحت عليه، فتقول: لا,, لا مزيد من العلماء أو التجارب، يجب أن نكون ما نحن، وليس ما حاول أبونا أن يجعلنا عليه.
ومع صوت دوغلاس السارد للأحداث من خارج الكادر، تندفع إلى الشاشة مشاهد صراع عنيفة بين البشر، متقاطعة، في غير مدينة حديثة.
إنه يستعيد المشهد القديم، ويستحضر المشهد المقبل: أشعر أن الحيوانات بداخلهم، وأن الإنسان مخلوق ليس بشراً وليس حيواناً، لأنه مزيج غير مستقر من الاثنين معاً, وها أنا أمضي خائفاً.
جملة دوغلاس الأخيرة صيحة تحذير ورعب من المستقبل، من الجزيرة المقبلة التي سيصل إليها، وهو يعرف ما فيها، بعد أن تفتحت عيناه على ما يتهدد البشرية.
ولكن أين مارلون براندو على المستوى السينمائي في هذا الفيلم, براندو الذي ينتظر عشاق السينما مشاهدته، هو المقل في السنوات العشرين الأخيرة؟
إنه يحضر بقوة في أدائه لشخصية الدكتور مورو، ولكن أداءه يحيلنا إلى أعمال سابقة له، بدأت في العراب وتُوجت رغم قصر الدور في القيامة الآن وهما فيلمان لفرانسيس فورد كوبولا, بمعنى آخر، فإن كوبولا قد نجح على نحو كبير في رسم صورة براندو من خلال تجلياته في هذين الفيلمين، بحيث أصبح صعباً على براندو الخروج من سحر كوبولا ولعنته الجميلة في الوقت نفسه.
شخصية الدكتور مورو، ليست بعيدة أبداً عن شخصية كيرتز التي أداها في القيامة الآن حيث تحول في ذلك المجتمع البدائي إلى شخصية أسطورية مسيطرة، إنهما دوران متقابلان، متكاملان، كوجهي عملة واحدة، تلعب الغيبيات دورها في رسم صورته في الفيلم الأول، ويلعب العلم دوره في رسم صورته في هذا الرعب المشرع جزيرة الدكتور مورو .
|
|
|
|
|