| الثقافية
لم يكن نظري ذلك الحسن الذي لا يسيح العالم فيه قطرات سوداء على أخرى بيضاء كالبحر قبل أن نكشفه، ونحدده بالأزرق البهيم والقاتل!
لم أتصور، يوما ما، أن أغرق في ثلاثة أمتار من الماء تأخذني الى قاعها المعدني بغفوة هادئة بدت لآلاتي الصديقة شيئا من الطفو المتعمد والمتقن، خاصة، في الأعماق!
ثقافتي كلها لم تحدثني عن سطح الماء الذي أتكون فيه غريقة تصحو في قاعه الأبيض، لأنها تعرفه، وتتخبط مرتاعة مما يعلوها منه ولا تعرف الا ان يدها تكاد تنتهي منه الى الهواء بجهد، فحاولت أن تشرب منه قدر ما أزيح فوقها، لتنجو,, ولكنه لم ينته، ولم ترتفع، وأيقنت بفشل قانون الازاحة، وكان لا ريب أن تلعب معه بعصبية مرتعدة خوفا من ان يقتل الشيء الوحيد، الحي فيها، سرطانها الملون، الجميل الذي يمد جزره الصغيرة والكبيرة، الملونة بأخاليط الخريف التي تتقبض، في داخلها كل منها، على قلب أسود لطيف، يذكرني، حينما ينتفض مستكشفا بيته الطيني فيّ، بجلبة طفل صغير يتعلم الرسم على رؤوس الإبر بألوان يديه منوعة الدماء!
يُبكيني اني أفقد التركيز على حرف واحد يريدني الطبيب الممل ان اتهجاه له! حرف واحد أتهجاه! ليتني في قوته، لأُرغمه على الانحباس داخل صفائح زجاج الأشعة الشفافة، ولأرغمه على تهجي مرضي الذي يفزعه اسمه، ومع كل حرف لن تعجبني البراعة العادية لنطق السين والراء، وتحريف النون، لأنه لا يدري أن سر تعلم دروس الكُتاب قد طار وأضمحل، حتى أصبح أشد الناس بلادة في قراءة صرعة الطب الجديدة التي لم تصرعني، بعد، ولم تتخلص من شقاء ثرثرتي!
أحب تعذيب الأطباء، لأنهم أشد بدائية مما يتوقعونني عليه، فهم يتهجون اشعاتي، وتحاليلي، وضموري، ونغمات أجهزتهم الملونة، بلغة واحدة في التهجي، كانت بالأمس، واليوم، وقبل عشرين يوما، وعامين أيضا!
ثلاثة أيام بقيت على موتي، وأنا أجهد في تخيل معرض عالمي للرسام الذي سأفتقد من داخلي، ولوحاته تطفو على وجه البحر الأسود، ذاك المحيط بشرق العالم وغربه، والناس قد أبحروا، عمرهم كله، يتأملون ويفكرون لأول مرة في هذا الفنان الوحيد في مجرتهم وكيف حاول مليون طبيب /دكتور أن ينفوه من الروعة، والبلاغة، والحضارة الضبابية، رغم ان الضباب ينتشر قبل انطراح المطر أو بعده بأزمان!
لا أستطيع رؤية ما أكتبه من شدة الضباب في رأسي، فالوجود، كله، ينضغط في رأسي قبل فواتي عليه بعد يومين أو ثلاثة!
العجوز الذي كان يحمله السندباد، وهو بوجه حمار متعب، ما زال الشيء الذي يضحكني، ويضحك البياض الذي يصهرني في غرفتي المغلقة، وما زال الرابط الوحيد لصداقتي للآلات الحديدية، التي تستغلُّ، معي، وحدتنا، لتحول شاشاتها الى مغامرات السندباد، وريمي، وهايدي، متبعة تعاليمي لفك مكثفاتها وشفراتها الرقمية، بليدة الحساب، مثلي!
لم أتامل، أبدا، وجه الحمار قبل أن يعاتبني سرطاني بأني أثقل عليه، كثيرا، بكثرة غياب وعيي عنه، ويظل وحيدا لا يدري ما يفعل من دوني، سوى ان يتشبث بعروقي، أكثر، علّي أشعر به، وأعتذر الى ذلك المخلوق اللطيف مثلي، بأني الآن عرفت ان سرقة الانسان لوجهه هي التي أفزعتني وأحزنتني أيضا كلما تأملت الطبيب الذي يغتال المحاولات الفاشلة، لسرقة مرضي، وجهي وروحي، مني!
*سرطان ,,, سر طار .
الجوهرة بنت حميد
|
|
|
|
|