| الثقافية
كل شيء مصيره للزوال غير ربي وصالح الأعمال |
نحن اليوم افتقدنا رجلا فاضلا وإنساناً كاملاً، نعم، فقدنا رجلاً يفدى بآلاف من الرجال، لما اشتهر به من مكارم الاخلاق وجليل الاعمال، إذا ذكر الحق كان أكبر ناصر له، وهو مثال الوطنية، كان رحمه الله على جانب عظيم من الرقة والدعة ودماثة الأخلاق، مع ما اتصف به من دقة الفكر والمجاهرة بالحق مع كل إنسان وأمام أكبر إنسان,.
ولست في كتابتي عنه بصدد الحديث عن نواحي العبقرية في حياته وملكاته ومؤلفاته او ترجمة حياته الوظيفية، وإنما اتكلم عن طبيعة ادبه وثقافته فقد كان متضلعاً في علوم الدين واللغة والتاريخ كأكثر النابغين، والادب في رأيه تفكير مستمر يتأثر بالفكر العام ويؤثر فيه، فهو في رأيه تعبير متجدد يصور المجتمع الحاضر ويترجم عنه، وكان همه من الكتابة في الانساب والتاريخ والأدب أن يقرر ويقنع، لا ان يؤثر ويمتع، ولعل منشأ ذلك فيه ان عقله اخصب في خياله، وأن علمه اكبر من فنه، وأن حبه للوضوح والصراحة كان يحبب إليه إرسال نفسه على سجيتها في غير تقييدها بأسلوب معين، وعرض الفكرة على حقيقتها من غير تمويهها بوشي خاص، ومع ذلك كان لاسلوبه الأدبي التاريخي طابعه المميز وجاذبيته القوية، تقرؤه فلا تروعك منه المعاني المبتكرة ذات العمق والجذور التاريخية، والآراء الصادقة الصريحة الجريئة والشخصية القوية المهيمنة، فأنت منه بإزاء عالم يبحث ويسبر الأغوار لينتج، ومصلح يصف ليعالج المغالطات التاريخية والأدبية، وكان رحمه الله يتوخى الحذر دائماً في المنعطفات التاريخية العرقية، فيجمع بين نصاعة الفكرة وحسن الصورة ويلائم بين رزانة المعنى ورصانة اللفظ وسلامة المبنى ولقد كان ناجحاً في حياته العلمية والعملية وبنجاحه فيها يعد نجاحاً للجد وفوزاً للفضيلة، لأنه لم يعتمد في شهرته العلمية على الإعلان والبهرجة او التهويش، ولا في مناصبه الوظيفية السابقة على الاستخناء والملق، وإنما كان يجري عمله على الاخلاص وفي معاملاته على الحق المبين، وفي علاقاته مع الآخرين على الشرف بالمقدار الذي يطيقه الإنسان الخاضع بحكم طبيعته لآثار الوراثة والبيئة والظروف,, وما كانت حياته الحافلة إلا مثلاً للحياة العاملة في غير ضجيج,.
والاستاذ المرحوم قد اجتمعت له في حياته كل المزايا والصفات الخيرة، فهو من حيث المادة لم يدع مصدراً يعول عليه من انساب العرب وأيامهم وأخبارهم الا استمد منه، بعد النظر النافذ الثاقب والموازنة والمعادلة، ومن حيث الطريقة فقد اتخذ المنطق ميزاناً يأخذ به ويعطي، فهو يروي بالنص الصريح، ويدعي بالدليل الناهض، ويقنع بالحجة الناصعة، ويدافع بالحق المبين,.
ويستقي فيحسن الاستقراء، وقد جعل همه منذ حياته الاولى ان يسلسل الوقائع والفصول سلسلة المقدمات الصحيحة، ثم يخرج منها بالنتيجة التي لا موضع فيها للشبهة، وقد كان هذا العلم الفذ والمفكر العظيم يكتب عن إيمان صادق، لا عن رغبة في الكتابة ولا ينشر طمعاً في الشهرة، إنما كان يكتب كتبه وينشر مقالاته في الصحف، ويرسل فكرته في الناس من غير ضوضاء، ثم لا يعنيه الا ان يراها نصب الغرض الذي قصده وتحدث الأثر الذي اراده,.
وكثيراً ما كان ينفذ ببصره وفكره الى طوايا المجتمع فيرى بقوة لحظه وحدة ذهنه دقائق وتفاصيل تاريخية، لا يدركها النظر العادي، ومزية الكاتب والمؤرّخ والنسّابة الموهوب ان يرينا ما لم نر ويقف بنا على ما لم نعلم، ويصور لنا ما لم نتصور، وفي كثير من كلماته المنشورة آيات من الحوار والتصوير مثل بهما طرفا من بعض نقائص التاريخ تمثيلاً دل على ملكة أصيلة في التاريخ والأدب، وقريحة سخية تألفت من كثرة ما اجتناه واقتطفه,.
حقيقة ان حياة هذا العلم كانت ملحمة تاريخية، وكانت ميتته مأساةً، وكما يكون بطل الملحمة عبقري الصفات في خيال الفنان: كان الشيخ الجاسر عبقري الصفات في واقع الطبيعة,, ولكن بطولته نمط آخر من بطولات ذوي الكفاح، قوة في الروح تقهر النفس، وقوة في الخلق تقهر الغريزة، ومن لوازم القوة الحلقية العزم والحزم والنظام والصراحة، والصفات الأولى هي عناصر الشخصية الخاصة فيه فهو الصديق الودود المتودد المحب لكل إنسان، والصفات الأخرى هي عناصر الشخصية العامة منه وفيه، فهو المعلم الأديب اللغوي النسابة المؤرخ.
وكان الفقيد فوق كل ما تقدم رياضي الروح والعقل والجسم، فمن رياضة روحه نبالة نفسه ومن رياضة عقله سلامة تفكيره، ومن رياضة جسمه شجاعة قلبه، وهذه الصفات هي التي تندر في اكثر الناس، لذلك كان فقد أمثاله رزأً لا يحتمل، وخسارة لا تعوض، ومما يطمئن القلب على سلامة الفطرة في مجتمعنا ان الكثير منهم يجمعون على حب هذا الرجل، فكأنهم يحبون الفاضل لذاته، ويكرهون ان يدخل الهوى في تقدير حسناته، وإن الشعب الفقير في الرجال خليق بأن يطول حزنه على فقد رجل من هذا النوع، وإن المصاب في مثله مصاب في الكيف لا في الكم، وفي الجوهر لا في العرض، وفي الرعاية لا في القطيع، وقد كان له معترضون ومعارضون ثائرون وقديما قيل: ذوو الفضل يحسدهم ذوو التقصير وكان خافض الجناح، لأنه قوي النفس، واكد السطح لأنه عميق الغور، وكثيراً ما يفوت على خصمه لذة التجني عليه، فلا يجد ما يقول إذا أراد ان ينتقصه بنقده او حقده، وتصغيرك لشأنك فيه معنى التواضع، ولكن تصغير غيرك لك فيه معنى الضعة لفاعله، على انه كان إذا أكره على الخصومة ورأى ان لابد مما ليس منه بد شديد المعارضة حديد القلم يقرع صاحبه بالتهكم اللبق اكثر مما يقرعه بالحجة الدامغة، وهذه صفات الكرام الأقوياء، وقد تصدى للمعارضات مرة بعد مرة فكان عف اللسان عن هجر القول وفحشه، عف الفكر عن المغالطة العقيمة، عف النفس عن الخديعة، يعالن في المخالفة ويعتمد في إعلانها على الصدق والجد، ويصارح بالتهمة التاريخية، ويستعين على إثباتها بالحق والمنطق، وقد ينفرد بالرأي ولكنه يجعل من قوة إيمانه وثبات جنانه السند الذي لا يهي من وهى الشيء بمعنى ضعف والدليل الذي لا يدفع والحق ان الحزن على هذا الفقيد سيغزو حتى القلوب الغلف والأكباد السود، فما ظنك بمن يعرفونه عن كتب او يمتون اليه بصلة ادب او قرابة ونسب، او يقرون له بفضل؟! وبعض الثكل يقصر الأسف فيه على الأقربين، وبعضه يتناول الأكثرين فيبكي الفقيد غير أهله وهم لايعرفونه ولم يروه، وإنما يبكون آمال والد عرفوه بآثار قلمه وجهاده في خدمة وطنه وأمته، فالذي فقدناه ليس كباقي الرجال، بل رجل عنوان الادب والتاريخ والكمال، عنوان العفة والاستقامة، عنوان الشرف والفضل، فإنا لله وإنا إليه راجعون وكلنا الى الموت سائرون، واسكنه فسيح جنته، وأخلف بالخير على اسرته ومجتمعه، وسبحان الحي الذي لا يموت.
وماكان قيس هلكه هلك واحدٍ ولكنه بنيان قوم تهدما |
خبير التعليم في حائل عبدالله التركي البكر
|
|
|
|
|