أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 3rd September,2000العدد:10202الطبعةالاولـيالأحد 5 ,جمادى الثانية 1421

مقـالات

تربية أحمد أمين؟
د, حمد المرزوقي
المرحوم أحمد أمين باحث أصيل، وكاتب مقال متميز، اتسم إنتاجه العلمي بالرصانة واسلوبه بالوقار.
كان احد العشرة الكبار في عالم الفكر والأدب في العالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ترك للأجيال عشرة مجلدات (فيض الخاطر) تضمنت مقالات في الأدب والثقافة والسياسة والاجتماع، ومثلها في الحياة العقلية عند المسلمين (فجر الإسلام وضحى الإسلام,,, الخ)، وغير ذلك من المؤلفات والمترجمات بل أنشأ مجلة الثقافة وكانت منبرا رائدا للفكر والنقد والابداع.
وتصنيف أحمد أمين بمقياس نقدي قضية في غاية الصعوبة فالأدباء يحسبونه على العلماء، والعلماء يحسبونه على الأدباء، وقطعا ليس مفكرا من أصحاب القضايا والمقولات،ولكنه باحث لماح وثابر ويكتسب من العلماء الموضوعية والوقار ومن الأدباء رهافة الحس ولمحات إبداع، وهو نسيج وحده، حفر مكانته بجهد دؤوب ومثابرة نادرة، فرغم المرض وما تعرضت له عيونه من قصر في النظر وآلام انفصال الشبكية من احداهما، لم يمنعه من مواصلة القراءة ومسامرة مطولات في التراث كانت تطبع على ورق غير صقيل وبصف للأحرف بدائي.
وحين فرغت من قراءة كتابه حياتي والذي ارخ فيه لتطور فكره وكيف تربى وعاش، وكيف ثقف نفسه وهو الأزهري نشأة ومدرسة القضاء الشرعي تأصيلا في كتب العصر وثقافة الآخر، وتمكن من تعلم اللغة الإنجليزية بمساعدة سيدة إنجليزية سنأتي على ذكرها.
أقول عندما فرغت من قراءة الكتابة تمنيت لو أن وزارة المعارف قررت الكتاب على طلاب الثانوية العامة، ليتعلموا من حياة رجل نذر نفسه للعلم والبحث، واعرض عن مظاهر الدنيا الزائفة، ويتعلموا أيضا معنى التواضع من كاتب فذ يضع نفسه في سياق الأحداث وهو يقص حياته دون ان يلونها بمنظاره الخاص أو يتعالى على أقران، أو ينسب الفضل له ويجحد حقوق الآخرين,
أحمد أمين في كتابه حياتي أنصف ذاته وأنصف غيره بمستوى من التواضع لا يقدر عليه إلا من تتوفر له شمائل أحمد أمين.
وإذا كان من الصعب تلخيص كتاب من الحجم الكبير في مقال واحد، فإني أركز هنا على الجوانب التي أثرت في تكوينه الفكري واسهمت في تربيته.
يقول أحمد أمين، نشأت في قسم الخليفة من أكثر أحياء القاهرة عددا وأقلها مالا وأسوئها حالا، وكان بيته أول مدرسة تعلم فيها دروسه في الحياة (ولقد كان بيتنا على الجملة جدا لا هزل فيه، متحفظا ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جد أبي وعزلته وشدته، فهو يأكل وحده، ويتعبد وحده، وهو عالم أزهري وإمام مسجد، لذا فقد اكتظ البيت بكتب الفقه والنحو والحديث ,, الخ ص62).
ويشير رحمه الله إلى تأثير البيت عليه: (ثم ان كل خصائص البيت انعكست في طبيعتي وكونت أهم مزايا شخصيتي، فان رأيت فيَّ افراطها في جانب الجد وتفريطا معينا في جانب المرح، أو رأيت صبرا على العمل وجلدا في تحمل المشقات، واستجابة لعوامل الحزن اكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فأعلم ان ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه، وان رأيت دينا يسكن في اعماق قلبي، وإيمانا بالله لا تزلزله الفلسفة، أو رأيت بساطتي في العيش وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي والقائي، وبساطتي في اسلوبي وعدم تعمدي الزينة، وكراهيتي الشديدة لكل تكلف وتصنع في أساليب الحياه، فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي ص67).
ويقول عن معلمه الأول والده : (كان أبي يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة، كان واضح العبارة قادرا على الإفهام من أقصر الطرق، وله مطالعات في كتب الادب والتاريخ واللغة وقد حبب إليَّ القراءة في مكتبته، فكنت أقرأ في تاريخ ابن الأثير، ووفيات الأعيان، وفاكهة الخلفاء وكليلة ودمنة ونحو ذلك، وقرأ لي كتابا في المنطق وكتابا في التوحيد، فكان هذا كله في الحقيقة أساس ثقافتي، وترك لي دروس الفقه والجغرافيا والحساب أحضرها في الأزهر ص114).
وفي الثامنة عشرة من عمره ضجر من الأزهر والتعليم فيه وتقدم على وظيفة معلم لغة عربية في الاسكندرية، وهناك التقى بمعلمه الثاني وهو المرحوم عبدالحكيم محمد وكان له الأثر الكبير في نفسه، كان أحمد أمين لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره والأستاذ عبدالحكيم محمد معلم للغة العربية التي يتقن فيها أحمد أمين، يقول عنه (كان هذا الأستاذ يعتمد في دروسه مع تلاميذه على الحب لا على الإرهاب، ويترك لهم الحرية في الحديث والنقد إلى درجة تشبه الفوضى، ولم يكن في درسه مدرس لغة عربية فحسب، بل مدرس تفكير ونقد للمجتمع وما شئت من شؤون الحياة، وكان تلاميذه يسمونه الشيخ الإنجليزي، لترفعه وحريته وصدق قوله وسعة فكره، صحبته فكان مكملا لنقصي،موسعا لنفسي،منفتحا لأفقي، كنت أجهل الدنيا حولي فعرفنيها،وكنت لا أعرف إلا الكتاب فعلمني الدنيا التي ليست في كتاب، وكان أبي وشيوخي يعاملونني على أنني طفل، فعاملني أني رجل، فملأ فراغي، وآنس وحدتي، ,,الخ وعلى الجملة فلئن كان أبي هو المعلم الأول فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثاني، انتقلت بفضله نقلة جديدة، وشعرت اني كنت خامدا فأيقظني، وأعمى فأبصرني، وعبدا للتقاليد فحررني، وضيق النفس فوسعني، وظلت صداقتنا سنين, ص108).
أما المعلم الثالث فقد كان بلا جدال عاطف بك بركات، ناظر مدرسة القضاء الشرعي، فعندما عين أحمد أمين معيدا بالمدرسة عمل بالقرب من الناظر، ولندع أحمد أمين يصف هذه العلاقة: (كنا نلتقي، فيعرفني آراءه ويستمع إلى مجادلتي وقد أثر فيَّ تأثيرا كبيرا من ناحية تحكيم العقل، فقد كنت إلى هذا العهد احكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسي بالجدل العقلي ,, وعاطف يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم، وكان له غرام في البحث، وصبر على الجدل، وطول نفس في المناقشة حتى ليفضل من يناقشه ان يسكت أخيرا وإن لم يقتنع,
وكان من أثر هذا الجدل اني أعملت عقلي في جزئيات الدين، أما جوهر الدين من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته فظل ساكنا في أعماق قلبي لم ينل منه أي جدل ولم يتأثر بأي قراءة ص138).
الشخص الرابع امرأة انجليزية، حيث كان رحمه الله يرغب في تعلم اللغة الإنجليزية، ودرس على يديها سنوات، ووفق كما يقول من العثور على سيدة إنجليزية كان لها أثر عظيم في عقله ونفسه، يقول: (مسر بور سيدة في الخامسة والخمسين من عمرها،كانت تعلمني الإنلجيزية وتوثقت الصلة بيننا فكأنني كنت من أسرتها، وهي لا تعني بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي، لاحظت في عيبين فعملت على اصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما عليَّ في كل مناسبة, رأتني شابا في السابعة والعشرين أتحرك حركة الشيوخ، وأمشي في جلال ووقار، وأتزمت في حياتي وأصرف حياتي بين دروس احضرها ودروس ألقيها، ولغة أتعلمها، ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر، ينطوي قلبي على حزن عميق,, فوضحت لي مبدأ هو تذكر انك شاب والثاني أنها رأت لي عينا مغمضة لا تلتفت إلى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة، ولا جمال انسجام وترتيب، فوضعت لي المبدأ الآخر، يجب أن يكون لك عين فنية ص156).
أما العناصر الأساسية في تكوينه التربوي والثقافي، فقد استمدها بالدرجة الأولى من الكتب، وكما مر معنا فقد كانت بداية تكوينه الثقافي من كتب والده، مطولات في التراث الديني والأدبي وعندما عين معيدا في مدرسة القضاء الشرعي حدثت له نقلة نوعية في مسار القراءة ولندعه يتحدث عن تلك الفترة : (كنت أقضي وقتي في مطالعة الكتب، ومن أحسن ما قرأت في تلك الفترة كتب ثلاثة مختلفة الأنواع والألوان : كتاب تاريخ الفلك عند العرب للأستاذ فلينو، واستفدت منه كيف يبحث كبار المستشرقين، وكيف يصرون على البحث؟، وكيف يعيشون في المادة التي تخصصوا فيها، وكيف يسيرون في بحثهم من البسيط إلى المركب في حذر وأناة فإذا قلت أنني استفدت منهج البحث من هذا الكتاب لم أبعد عن الصواب.
والكتاب الثاني أصول الفقه للشيخ الخضري، كنت قرأت بعضه وأنا طالب، فأعدت قراءته على شكل آخر، أطبق في قراءاته ما استفدته من عاطف بك بركات من حرية في النقد واعمال العقل فيما يقرأ، فكنت أقرأ الفصل وأديره في ذهني واتساءل : هل هذا حق أو باطل وخطأ أو صواب؟ فإن كان خطأ فما وجه الصواب، وأكتب في آخر كل فصل رأي فيه ونقدي له.
وأما الكتاب الثالث ففي الأدب وهو ديوان الحماسة وشرحه, أقرأ القصيدة أو المقطعة وأعرف معنى الفاظها اللغوية ومعنى البيت في الجملة، ثم أعيد قراءته، وما استحسنته من الديوان حفظته ص152).
ولا ينسىالمرحوم أحمد أمين أسرته فتحدث عن زوجته وأطفاله، نقتطف مشكلتين صادفتا علاقتهما الزوجية أحداهما مسألة الخدم، فالبيت لا يستغني عنهم ولا يرتاح بهم,, فزوجي غضوب تريد ان تنفذ جميع أوامرها بدقة والخادمة لا تعمل أو لا تستطيع أو تعاند فيكون الغضب.
والثانية مشكلة وسائل التفاهم: فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم فان حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما اقنع وإما أصر وإما عدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت ان العقل اسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات، فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض وأنت تأتي بالحجج التي تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن ,, الخ ص182).
وغني عن القول ان المرحوم أحمد أمين يتحدث عن تجربة شخصية لا يجوز تعميمها على النساء, وبصفة عامة أوصي القارئ بقراءة هذا الكتاب القيم وإذا فرغ منه يحيله إلى أولاده للقراءة فهو كتاب غني ومتنوع الثراء.

أعلـىالصفحةرجوع












[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved