| الثقافية
ربّما، وبعد الحرب العالميّة الثانيّة، اتضّح أن الشاعر العربي بدأ يعرف دوره الذي يجب أن يلتزم به، على الرغم من تنوّع الأدوار وتقاطع بعضها وتكامل بعضها والتناقض بين بعضها الآخر.
ولأن الشاعر إنسان صادق وملتزم، أو هكذا يُفترض، فهل كان مصدر هذا التنوّع والتقاطع والتناقض يعود إلى خلاف حول تفسير وفلسفة طريقة أداء الدور، أم إلى خلاف حول المبادىء ودرجة الالتزام بها؟.
بعد رحيل الاستعمار العسكري المباشر عن العالم العربي، وسقوط أصحاب الايدلوجيات وليس سقوط الايدلوجيات إذ أن الفرق بين سقوط الايدلوجيات وسقوط أصحابها واضح، فالايدلوجيات أفكار ونظريات مجرّدة يتوقف نجاح وفشل وقوة وضعف تطبيقها وآثار هذا التطبيق على من يتبنّونها ، وبعد انهيار كثير من أصحاب القناعات، والتساقط المادي والمعنوي للروّاد الذين بدأوا الشعر العربي الحديث في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات؛ جاء جيل السبعينيات ليُعيد حسابات الشعر العربي ويراجع طرائقه في أداء أدواره الفنية والإنسانية من جديد؛ ولم يستطع سوى من يُعدّون على أصابع اليد الواحدة رسم سمات خاصّة بهم استحقوا بها ومن خلالها أن يكون لوصفهم بشعراء السبعينيات معنى ودلالة في تاريخ الشعر العربي الحديث، وفي محاولاتهم الجادّة الفنية والانسانية لتنظيف الشعر العربي الحديث مما التصق به من غبار الروّاد أو أوساخهم ومن توظيفهم الشعر لأغراض دعائية ومادية وحزبية وسياسية وشخصية وبهلوانية، وحاول شعراء السبعينيات العودة بالشعر العربي إلى وظيفته وجوهره الجمالي الإنساني المشترك.
نجح بعضهم في انقاذ شعريّته من عجز وافلاس وصنميّة من وُصفوا بالروّاد، ومن قواعدهم وأنماطهم التي أصبحت أشد تقييدا لحريّة الشاعر وتقدّم الشعر من قيود الخليل وقدامة وغيرهما من التقليديين؛ ثم جاء جيل الثمانينيات الذي حاول إبداع القصيدة الشاملة أو تفجير اللغة، ولم يشكل جيلهم سوى استمرارية للشعر العربي الحديث ولم يحققوا أيّ نقلة نوعية تسجل لهم كإنجاز يمكن وصفه بالتجاوز او الاختراق أو الإضافة، إلى أن جاء جيل التسعينيات، ومعه قصيدة المعنى والشعر الحقيقي المجرّد من الأزياء الخارجية والألعاب البيانية والتقنية والبنائية، فأحدث نقلة حقيقية للشعر العربي الحديث؛ وإن كنا لانزال، ونحن على أعتاب العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ننتظر أن يتكامل انتاج هذا الجيل الذي أصبح مسيطراً، وأن يأخذ دوره في النشر والانتشار، وأن يتغلب على ما يُوضع في طريقه من صعاب، وبخاصة إن النشر والانتشار مايزالان تحت سيطرة الروّاد وتلاميذهم ومريديهم والمستفيدين من أسمائهم، مما يشكل عقبة في طريق هذه التجربة التي تقابل بالحرب، والتي لم تحظَ بما حظي به الروّاد من مواكبة اعلامية,, وآلية نقدية انبهارية تبعية ساذجة ,, ومن نشر واختفاء مؤسساتي، وبأشكال مبالغ فيها.
الشاعر الجديد وهو الاسم الذي يُطلق، هنا، على جيل التسعينيات ومن تلاهم حتى الآن، من كتّاب قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة الجديدتين والمتحررتين فنيا، من كل عرف سابق لم يستطع وبوحي من وعيه وإيمانه برسالته وإحساسه الحقيقي والصادق بمسؤوليته الفنية الانسانية أن يتجاوز أهم ما أفرزته تجربة الشعر العربي الحديث من إبداعات شعرية وتنظيرات نقدية حولها، وبخاصة ما يمس واجباته وحقوقه؛ وإن بدا أقل صراخاً وضجيجاً وثرثرة من الروّاد ومقلديهم، وأقرب إلى نفسه ومكانه وزمانه من شعراء السبعينيات، وأشد التصاقاً بالحياة ومفرداتها وبالانسان العادي وهمومه من شعراء الثمانينيات، وأشدّ تركيزاً وتكثيفاً واختزالاً وقرباً من صفاء التجريد ونقائه الخالص، وأصبح الإنسان الفرد البسيط العادي الضعيف المسحوق المسكين هو بطل أعمالهم، فلا وجود لأبطال أسطوريين أو أشياء وقوى غامضة أو وراء زجاج من الأقنعة والرموز القديمة، في عودة شعرية حقيقية جديدة إلى مادة الحياة الجديدة المستقبلية في الشعر، محاولين تحقيق وحدة عجز عنها السابقون، عندما لم يهمل الجدد اللغة ولم يجعلوها بطل أعمالهم، بحيث لم تعد لديهم وسيلة فقط ولا غاية فقط ولا العنصر الوحيد للشعرية، واكتشفوا أن اللغة هي أداة لإبداع يتجسد في نص يثير ويوحي ويغير ويدفع إلى إعادة النظر في كل شيء.
أزال الشعر الجديد كثيراً من الفروقات، وأسقطها، بين لغة الأدب والعلم والحياة اليومية، وكثيراً من الحدود من خرائط الكلام وصولاً إلى كلامه الجديد،والحواجز التي رسمت بين أجزاء الأساليب,, ألفاظاً وتراكيب واستعمالات؛ ومع ذلك وعلى الرغم منه، لم يُصبح شعراؤه أصحاب لغة شعرية واحدة ولم يعتمدوا معاجم أو تقنيات أو طرائق متماثلة، وإن كان هذا الحكم يصحّ على الشعراء الحقيقيين منهم فقط، وليس على آلاف الأسماء التي تمتلىء بها وسائل الاعلام من هواة الثرثرة أو الظهور أو كتّاب الخواطر أو أصحاب العلاقات الاعلامية أو النقدية الخاصة.
أصبحت كل الألفاظ لديهم مادة قابلة للصياغة شعرياً، ولم يعد يهمهم أن يتكلموا اللغة اليومية أو البيانية أو المنحازة إلى بلاغتها أو دعائيتها، بقدر ما أصبح يهمهم شعرنة العناصر والأشياء والعلاقات والكون في قصيدة وبأسلوب خاص، دون أن تكون اللغة أهم عناصر التجربة الشعرية كما عند سابقيهم بل من أهمها فقط، بحيث لاتطغى على بقية العناصر أو تلغيها أو تضعف دورها الفاعل؛ وأصبحوا أكثر إدراكاً للمفردة في سياقها التعبيري ومستوياتها (اللفظية والنحوية والصوتية) والدلالية، ومتجاوزين هذا التحديد اوغيره إذا تحوّل إلى قيد يعوق العملية الإبداعية.
|
|
|
|
|