| مقـالات
عندما أتابع حملات الترشيد أتذكر نهيه صلوات الله وسلامه عليه عن الإسراف في الماء ولو من نهر جارٍ, ومشكلة الإنسان أنه يبدأ الترشيد لا كمبدأ وليس كإستراتيجية تستبق الحاجة اليها ولكن كردة فعل على ما أوقعه فيه إسرافه, وهكذا ففي أيامالطفرة السبعينية أسرفنا في كل شيء فأنفقنا على مشاريع، كمحطات تحلية المياه، تتطلب تكلفة عالية للصيانة والتشغيل، وأهملنا سدود المياه في أودية عسير والدواسر، ودعمنا مشاريع زراعية تفوق احتياجاتنا وتستهلك رصيدنا من المياه الجوفية بلا رحمة، وأهملنا الزراعة الطبيعية في مدرجات جبال السروات وأوديتها في الجنوب الممطر, وبدلا من أن نسعى تجاه الكهرباء الرخيصة بالاعتماد على الغاز الطبيعي المصاحب والمهدر حرقا، وبالاستفادة من كهرباء السدود الهيدروليكية شبه المجانية، أقمنا التوربينات البترولية الغالية الثمن، المسرفة الاستهلاك، والقصيرة العمر.
وتشير بعض الدراسات الى أن تكلفة السدود تتراوح بين بضعة ملايين الى مايزيد عن مائتي مليون ريالسد الدرعية 12 مليون ريال، سد أبها 29 مليوناً، سد جيزان 41 مليوناً، وسد بيشة 246 مليوناً فيما تتراوح قيمة محطة التحلية بين مئات وآلاف الملايين, ويعيش السد الى قرابة المائة عام، وتعيش المحطة عمرا افتراضيا يقدر بعشرات الأعوام, ولا يكلف السد شيئاً يذكر على صعيد الصيانة والتشغيل، وتستهلك المحطة عشرات الى مئات الملايين سنويا, وعليه فإن قيمة محطة تحلية واحدة في مدينة متوسطة يمكن أن تقيم عشرات السدود في أودية وجبال الجنوب تذهب مياهها اليوم الى البحر وتعطش قرى وبلاد رغم الأمطار شبه اليومية، ويشار الى أن تجارب أمريكية أثبتت نجاح عملية استحلاب السحب على المرتفعات الجبلية بعمل مصدّات تستدر ماءها, وكان من الممكن الاستفادة من هذه التقنية مع السدود لضمان امتلائها والآبار بالمياه طوال العام، يضاف الى هذه المزايا المصلحة السياحية والبيئية.
ورغم أن السدود ليست هي الحل الممكن في كل حالة، خصوصا في المناطق غير الممطرة، الا أن الحلول الأرخص لتوفير مادتي الحياة الأساسيتين، الماء والكهرباء كثيرة, وكان الأمير محمد الفيصل، محافظ مؤسسة تحلية المياه في السبعينيات، قد اقترح حلا وافقه عليه عشرات العلماء والمتخصصين في مؤتمر دولي كبير تبناه على حسابه الخاص، وهو جر جبال الجليد من القطبين المتجمدين لترسو على سواحل المدن الرئيسية فتحسّن جوها وتؤمن ماءها وتكون لها واجهة سياحية رائعة، وكانت تكلفة هذه العملية أرخص وأنظف وأجدى من تكلفة محطات التحلية.
ومن بين الحلول المتاحة لتوفير الكهرباء شبه المجانية الاعتماد على الطاقة الشمسية ومولدات الريح وموج البحر، والتي تتميز الى اقتصادياتها بنظافتها, يضاف ذلك الى الاعتماد على الغاز الطبيعي بدلا من الوقود، وترشيد الاستهلاك باستخدام التقنية المتقدمة في المولدات والأجهزة الاستهلاكية على السواء.
وخلاصة الأمر، أن إستراتيجياتنا للتعامل مع المشكلات بدأت بعد حدوثها، والتوعية بالترشيد والدعوة اليه انطلقت بعد أن أفسدت الطفرة والوفرة عاداتنا التقشفية وأخرجت أجيالا من المسرفين يصعب إصلاح سلوكياتهم الاستهلاكية ببرامج تلفزيونية وإعلانات صحفية, والعبرة هنا أن الحلول تبدأ قبل الحاجة اليها، ودرهم الوقاية خير من قنطار العلاج ، والأمل أن نستفيد من هذه التجارب القاسية في وضع إستراتيجيات طويلة الأمد تتنبأ بالأزمات قبل حدوثها وتستعد لها قبل أن تنزل علينا نكباتها، ويقع الفأس على الرأس, ولعل التوجه الحالي نحو وضع النظم والقوانين، وتشكيل الهيئات المتخصصة للتعامل مع هذه القضايا يبشر بالخير ويوحي بجدية التعامل مع أزمات المستقبل وتحدياته بنفس قدر الاهتمام بإشكاليات الحاضر ومعاناته.
* رئيس الشئون المحلية، جريدة الوطن ، أبها
|
|
|
|
|