كتاب الكتابة (2) هنالك قرب مدينة القدس، حيث كتبت الكتابة نفسها إبراهيم نصر الله |
عام 1987 قمت بزيارة لفلسطين المحتلة من خلال التصريح التقليدي الذي يستطيع قريب او صديق مقيم ان يدعوك بموجبه لزيارته هناك وهكذا وجدت نفسي في مدينة رام الله على ارض الوطن، بحثت عن قريتي التي طالما حدثني عنها ابي، فلم اجدها، كان الصهاينة قد محوها عن وجه الارض ليقيموا مصنعا للسلاح فوق زيتونها، هنالك قرب مدينة القدس, لقد ذهبت وتجولت ورأيت وعدت الى عمان، وليس لدي اي نية في كتابة ما رأيته، وربما كان هذا الامر مهما من زاوية ما حيث بامكانك ان ترى وتعيش بعيداً عن القررا المسبق بالكتابة الذي يحوّل كل ما يبصره الانسان احيانا الى مادة كتابية بصورة فورية تفسد المرئي كحياة ولا تخدم الكتابة كثيرا كابداع, عدت من هناك لاتحدث عما رأيت للاصدقاء، وعبر الحديث اكتشفت انني رأيت الكثير لدرجة ادهشتني مما دعا الاصدقاء انفسهم لحثي على كتابة ذلك في مقال او سلسلة مقالات، اسجل فيها مجمل انطباعاتي, وحين بدأت العمل، وجدت نفسي ومنذ السطور الاولى اخرج عن شكل النص المعد في الذهن مسبقا، فتوقفت عن الكتابة، لأعود بعد ايام الى الورقة البيضاء لادخل تجربة مختلفة تماما تخلط المسرح بالشعر بالرواية بالاغنية بالسينما وان كان العمل بمجمله قد جاء اقرب الى السينما من اي نوع آخر وخلال ثلاثة اشهر كان كتاب (الامواج البرية) قد اكتمل، لابدأ فيما بعد بنشره على حلقات في جريدة (صوت الشعب) الاردنية واذا بالانتفاضة الفلسطينية تتذلع ليبدأ البعض بقراءته من زاوية اخرى: زاوية الكتاب الذي تنبأ بالانتفاضة وخلال تلك الايام كان الصديق الروائي يوسف القعيد في زيارة لعمان وحين قرأ ما ينشر فوجىء، وراح يسألني عن معنى ان اكتب عملا ادبيا عن الانتفاضة وهي لم تزل في ايامها الاولى وقد نشر حديثا فيما بعد في مجلة (المستقبل) نيسان 1998 وفيه بعض الاجابات التي لم تزل صالحة للتعبير عن تجربتي النثرية الثانية بعد براري الحمّى, فقد كان سؤاله: كتابك الاخير عن الانتفاضة,, كيف يكون هناك كتاب عن حدث مازال يتكون في رحم الواقع؟!!
وكانت الاجابة: (حقيقة الامر ان هذا الكتاب قد تم انجازه قبل الانتفاضة بشهرين، وهو وان كان يتحدث عن الانتفاضة كما يبدو، فانه محاولة لقراءة الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال ونمو الوعي المقاوم لدى الناس هناك الكتاب اذن عن المقدمات التي تنتهي باعلان الانفجار العام في خاتمته وان كان كثيرون قد اعتبروه هنا في الاردن نبوءة الا انني اقول ان الواقع الفلسطيني في الداخل كان يلزمه فقط من يراه وينقله بوعي فني، لان الطفل والشيخ والمرأة والفتيان يسحبونك هناك من قلبك ويشيرون الى المستقبل ببساطة, لذلك اقول هنا ان اسابيع قليلة أمضيتها هناك كانت كافية لتحسس بذرة البركان، لا لشيءالا لان كل شيء كان يمضي بثقة في فلسطين المحتلة الى غده، واعتقد انني لو تأخرت قليلا في كتابته حتى اندلاع هذه الثورة لما استطعت انجازه فهناك فرق بين ان تكتب وانت مقيد بصورة ما يحدث وبين ان تكتب وانت متحرر من حدث ما لان الكتابة عن حدث كبير بعد وقوعه يجعلك تحت تأثير هيبته).
وما يهمني قوله هنا ان تكرار التجربة النثرية جاء هذه المرة مرفوعا على فن تعلقت به، بل ادمنته واضحى جزءا رئيسا من تكويني الثقافي الا وهو السينما فاذا كان الشعر وعشق المسرح مقروءا مَعبَرَي التجربة الروائية الاولى، فان السينما كانت معبر تجربتي الثانية، ومحاولة كتابة السيناريو الادبي لفيلم احب ان اشاهده من خلال تمازج الانواع في سلسلة من المشاهد المتصاعدة عبر تكاملها البانورامي الفسيفسائي، الذي يشكل الصورة النهائية بعيدا عن الترابط التقليدي, وقد تعامل معه بعض النقاد فيما بعد كرواية ونظر اليه آخرون كشكل جديد يمكن ان يجري العمل على ترسيخه عبر اعمال اخرى ولكن خوفي من تكرار التجربة في الكتابات اللاحقة كان مردوده ان ما تم التعارف عليه باسم (النص) يضيع في النهاية على المستوى النقدي النظري للكتابة العربية، لانه ببساطة لا توجد الخانة التي يمكن ان يندرج فيها هذا الكتاب من المواليد, وهذا ما حدث فعلا فعلى الرغم من صدور هذا الكتاب في اربع طبعات خلال عامين فقط، ونجاحه على المستوى النقدي الصحفي وعلى مستوى الاستقبال من قبل القراء الا انه اليوم يعيش في منطقة بين حدود كتابتي الشعرية وكتابتي الروائية، دون ان يملك تأشيرة لدخول ارض الشعر او ارض الرواية لكن افضل ما قدمته لي كتابة ذلك النص انها بلورت توجها رئيسا في كتاباتي الروائية اللاحقة التي اخذت منه تقنيات المشهد السينمائي كما تراه الكتابة وتعبر عنه ليصبح بالتالي احد اهم هواجسي الروائية, (في الامواج، استخدمت تقنية الموج وتلاحقه، وتداخله، فمثلا هناك اربعة تداخلات فلاش باك متتالية ومتوالدة ومربوطة ببعضها كل واحد يوصل لآخر).
|
|
|