** يصنف تاريخياً (1) من شعراء الجيل الثاني في حركة الشعر السعودي المعاصر,, عبر ملحمة شعرية أمجاد الرياض 1394ه واربع مجموعات شعرية هي غناء الجرح 1397ه وهمسات في أذن الليل 1397ه وحروف من دفتر الأشواق 1410ه وتفاصيل في خارطة الطقس 1411ه وهي شعريات تمثل مرحلتها,, وترتهن لجماليات تقليدية تميزت بها القصيدة التناظرية حتى بداية الخمسينيات الميلادية,, وكما تشي دلالات اسماء تلك المجموعات فإنها ظلت أسيرة للغنائية,, وخطاب الوجدان التقليدي وتنويع في فضاء الرومانسية,, التي هيمنت على شعر تلك الفترة,, دونما مقاربة أو تماس بالحساسية الشعرية الجديدة,, أو ابتكار لرؤيا ابداعية مائزة ,, يفارق بها الخطراوي شعراء جيله,, أو يخالف عبرها نماذج القصيدة التي انتجتها تلك المرحلة محلياً ,,!
إلا ان مجموعته اسئلة الرحيل الصادرة سنة 1419ه، والتي احتمى بها بألق التفعيلة ,, وقارب من خلالها رؤيا معاصرة,, لخطابه الشعري مستجلياً ابعاد مخزونها الجمالي,, ومستأنساً بذوقها الإيقاعي,, ورؤياها المعبرة عن ازمة الذات في أفقها الانساني الرحب,, ومحاولاً الخروج بتلك الذاتية إلى فضاء يستجمع في بلورة الخطاب الابداعي المكوّن الحضاري,, وأسئلته القائمة والدائمة,,!
وبالتالي يزيح الخطراوي غنائيتها الموغلة بإرث الرومانسية,, واشكالاتها المتوارثة,,! ويفتتح بها مساراً شعرياً جديراً بالقراءة كان قد ارهص له بمجموعتين سابقتين هما مرافىء الأمل 1413ه، الذي يعد معبراً انتقالياً للتجربة من التناظرية برؤاها التقليدية,, وذاتيتها المنغلقة,, وإيقاعها المهمش,, كما في المجموعة الثانية تأويل ماحدث 1418ه النزاح إلى التفعيلة وفضاء تشكلها الرحب,, الذي يمزج الذاتي,, بالحضاري,, والفردي / الخاص بالجماعي، المتعالق بالضمير الانساني في وضعيته الشاملة,, واللانهائية,, وهذا التحرر من تاريخية التناظرية إلى واقع شعري ,, يعي مقوماته,, وقيم حمولات الذات المعاصرة,, وتعقيدات موقفها,, الباحث عن مشترك وجداني,, مفعم بملابسات التجربة ذاتها ,, ومأزوم بظروفه المعاصرة,, وإشكالات واقعه اليومي,!
وإذا كانت تجربة الخطراوي نموذجاً على مانزعمه,, فإن آفاق زعمنا هذا يتجلى مثالاً في مجموعة اسئلة الرحيل التي تنبني على هاجس الموت ابتداءً من العنوان,, الذي يعقد فيه الشاعر إشكالاً يختزل مضامين التجربة,, وابعادها,, عبر مفردات لفظية تتكثف فيها دلالة الموت في إفضاءات دلالية وحقول تعبيرية يفصح عنها التشكيل الآتي:
الدمع الأحزمة الفراق الموت
النواح النهاية المأتم الوفاة
الاحتضار الرحيل الكفن القبر
في بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة وساكنيها.
وبذلك يتضامن الشاعر مختاراً مع الراحلين,, محدداً بذلك تيمة شعرية الديوان ,, وبنيته الدلالية الرئيسة التي تستغرق ابعاد الهاجس المؤلم والمعبر عنه بهذا اليقين,, إزاحة إلى تراتيل البكاء,, والرثائيات الهادئة تضعه الهاجس/ الموت في مجابهة الاسئلة,, وتفارق باسئلتها,, حتمية المصير,, الى قرارات النفس المطمئنة/ الفاقدة ,, وكأن الفقد,, يواجه مرارة الموت
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ان لاتفارقهم، فالراحلون هم:
تساءت يوم رحيلك!
كيف يطير الفراش,؟
وكيف يغيب القمر؟
وكيف يجف الرحيق بقلب الزهر؟
وكيف تفارقه الروح هذا الجسد؟
وظل السؤال بغير جواب
ولكنك اجتزت سور المحال
,, رحلت,, و,,غبت
ففارقني الوعي بالوقت اسلمت ذاكرتي للرياح
قرأت عليها المعوذتين
وجملة أدعية صالحة
ولذت بنفسي
اهاجسها,, وأحاورها
حول معنى الكرامة والكبرياء ص 35
فهذا الموقف المتسائل إزاء الفقد,.
يستبطن دخيلة الوجدان المرزوء
بعنف الفاجعة,, والتي تستولد
الاسئلة البسيطة في بداهتها
التي تتوقف عندها دورة الحياة ونظامها,.
وهي وان تمادت في قراءة ذاتها
الموجوعة,, ومن ثم استظهار
اسئلتها الملحة,, والتي لاتجد
أجوبة تشفي اوارها,, وتكمن نباهتها
في استحالة اجاباتها,, فإنها تمضي
في سند كسرها بمزيد من الأسئلة,.
إذ الهاجس المحرض على قراءة جبرية الحياة وقهريتها,,!
وبذلك تتعالى شعرية الموت
من كونه نهاية للحياة,, الى طبيعة دينامية جديدة,, وهي توليد الاسئلة
وديمومة قراءة اسئلة الموت
بما يشكل دلالياً اتصالاً في البنية الشعرية,, يوائم بين تيمتها الأولى المتمثلة بالعنوان الى السياق الشعري,, الذي يشكل الاهداء في منظومته بعداً دلالياً موجهاً لمسار التجربة ودالاً على وعيها التقني,, حيث تتوزع اجزاء بنيتها على بقية النصوص,, بحيث تحقق قيمة السؤال الدائم من يقين واضح بقدرة محور التجربة الشاعر على وثائقية الهاجس / الموت سنداً تلتف حوله انماط الخطاب الشعري,, والذي يبتنيه الشاعر من فعل حركي - أستل - موتور بثقل الموت,, في نص الوقت ينقط ثيابي ص 38.
,, وأستل من شرفة الوقت
أمسية لوثتها مواجع
أغنية دامية
تداولها الراحلون بمركبة الموت
ورنت بأحرفها الصدئات
بقايا ملوثة بدموع التماسيح
,,, أين أزرعها,,؟
لتعود لها وقدة الأمس
معتمة بالظهيرة والأحرف اليانعة
فهنا,, وعبر تقنية,, الإبدال في اختيار الدال الشعري ونظامه التركيبي,, حيث يمزج الزمن/ بالمكان ,, لاستنباط اغنية دامية يزرعها بالاسئلة ويلون صفحتها بالفجيعة حتى يصل وعبر تقارب بنائي يفحص به المكونات النفسية لذاته الى حقيقة اللاجدوى,, وحتمية المصير المحكوم بعبثية الحياة.
,, لا فجر,!
لا فجر,, والظلمة الأبدية تحتل اضرحتي وتغامر بي في الدروب ص 39.
ويواصل انتزاع هاجسه من الحديث القائم,, والقدري الماضي,, مجابهاً عظمة الحياة,, بأسئلة الفقد ففي نص وكانت قمره ص 58 .
وكانت قمره
أمي,!
وحين ماتت تركت,.
سجادة ومصحفاً ومسبحة
واسّاءلت عنها مساقط الندى
وهدأة السحر
ولعل هذه البساطة المتناهية
في بعثرة البدهيات,, واستجلاء دلالة فقدها,, وانمحاء طقوسها الحميمة,,!
يعادل الموت ذاته,, الذي تزول معه طقوس الانسان اليومية واعتيادياته في معاشه اليومي,, وهي ترتقي هنا لتصبح بعد زوالها دوالا على نهاية الحياة لذات الميت .
وهنا تكمن شعرية الموت من فرض هيبتها كحقيقة على التجربة بمجملها,, وتواؤم بين معناها الحقيقي/الوجودي,, ووجودها الآتي في سياق شعري يستعضد دلالتها لتكثيف زخم مفردة الموت في سياقات وتصاريف لغوية متعددة عبر نصوص المجموعة,, فإنها تلتقي - وفق افضاءات مفردات أخرى أسلفنا الحديث عن وضعيتها في المخطط اللغوي السابق دائما في التعبير عن مصير الفاقد ومستوى فجيعته,, وعدم تحرره من الهاجس ,, ومن ثم التمادي بحقنه بالأسئلة الحتمية,, التي تستوعب - في لحمة البنية الشعرية المفردة الأقوى في صيغتها المصدرية,, وفي تصاريفها الأخرى,, حيث تكرر في خمسة نصوص ثلاثين مرة,, وبذلك يتأكد الهاجس/ الموت ويتجدد بتجدد ظروف استعارته من عمق الحقيقة الانسانية/ الوجودية الى المستوى الشعري,, الذي ينعطف هنا عن مسار التخييلة التي يعتبرها الامام حازم القرطاجني معتبرة في حقيقة الشعر عندما يحدد ان المعتبر في حقيقة الشعر إنما التخييل والمحاكاة (2) .
ولعل المعتبر ظهور الموت من كونه احساساً مجرداً,, وحقيقة معاشة تنتصف التجربة ,, وتقتعد لها حيزاً في مسيرتها.
ف الخطراوي الذي الف الغناء للأشواق الظمأى,, والاحلام السادرة على مدى عشرين عاما من تجربته الشعرية,،, يتوقف مجهداً أمام الموت هنا,, متطلعاً الى شعرية حديثة,, تقصي تجربته تجاه العمق الاستقرائي للحقائق العظيمة,, وتستعيد بها ألقها وتمنحها فضاء التشكل المعبر عن قدرات الشاعر الفنية وعن رؤية استجابت لحتمية المتغير وهو هنا هاجس الموت الذي يتبدل من صيغة مجردة في قاموس الحقائق الكونية العظمى,, الى نهاية قدرية,, فاجعة,, تقتحم كيان الشاعر,, وتبدد اوهام رومانسيته ,, وترغمه على قراءة نفسه من جديد,, واستثمار طاقاته التعبيرية في تكوين مسار شعري متميز عبر فعل الموت الذي يدركه الشاعر في الآخرين/ الأقربين ويتوجد بينهم خطاباً أبدياً يزرع في نفسه وجع الاسئلة ولاجدوى الاجابات,,! حيث يطغى في نص الكتابة على جدار النهاية ص 60.
قاموس الانمحاء,, والزوال,, والتحطم ويقترب النص من تكوين لوحة مأسوية يتطامن بها صوت الخائف,, الى اللائذ بملهاة الاسئلة المطمئنة بفتح الطاء ويتنامى الاحساس بالضجر حداً يستفز فيه نواة الخوف من الموت ويجذر الاحساس بالأسى بحيث يتمثل الشعري / ازاء الانساني في موقف تبادلي يجسد الانساني في الحقيقة المطلقة,, والشعري كبيان جمالي معبر عن الخوف,, والقلق من القادم المجهول,.
وتبنين بيني وبينك سدا تموت على قدميه الموازين تختل فيه كل المواقيت تسقط أحلامنا,,
تتهاوى شظايا.
وتكبر فينا المواجع.
تهرب منا النهايات إلا بقايا ص66.
** وتتجلى مفردة البكاء كفضاء دلالي مؤسس عليه,, وقابل دلالي للموت وحاضن له,, يختط نصا كاملا في المجموعة,, عبر أربع مقاطع مرتبة رقميا,, ومبدوءة بمدخل وهو هنا الموت المعبر بفتح الباء
من الخوف جئنا
وللخوف نمضي
وهذي المقابر تملأ أروقة الأرض
(صاح هذه قبورنا تملأ الرح
ب، فأين القبور من عهد عاد),,, ص68
ثم يواصل رسم تراجيديا مرعبة للموت,, والكفن,, والقبر,, الفضاءات الدلالية التي تتعاقب في النص بتتبع مرحلي مبطن بتشكيل تخييلي لما بعد الموت حيث يصل منه الى المعبر المتأمل,, الذي يتمثل في مركز الما بعد جزءاً رئيساً في السياق الشعري يتلمس طاقاته الدلالية من خاصية انبنائه على اجزاء الصورة المرسومة والمحكومة بصدقيتها,, وشفافية تأملها لنهاية الانسان، والفعل الإنساني مجرداً من جماليات الحياة وحيويتها وماضياً الى نهايته,, بحيث يصبح مفهوم التلقي لمثل هذه الصورة مخاتلاً لتوجه الحواس نحو تكوين فضاء شعري/ بصري,, لذات تقرأ الموت مجسداً خارج إطار معقوليتها المعتادة,, على اختراق المكشوف,, إلى استبطان نسق شعري,, مسكون بالتوتر,, بفعل المدون الشعري,, الذي يحدد مستويات الادراك الإنساني الواعي بمفهوم الموت والمنتهي كما يحدد الشاعر الى اليقين الابدي,.
,,ويسلمني الليل لليل والشوق مازال في داخلي
أملاً صاخباً
يزاولني فكرة
ويشرعني وجهة
ترفض الخوف والدمع
تؤمن ان الممات طريق الحياة ص 85.
هوامش:
* اسئلة الرحيل, د, محمد العيد الخطراوي.
مطابع دار البلاد 1419ه
1 د, عبد الله الحامد, الشعر الحديث في المملكة العربية السعودية خلال نصف قرن (1345 ه 1395ه) من منشورات نادي المدينة المنورة الادبي الطبعة الأولى 1408ه ص 102.
ويعتبر هذا الكتاب من اعمق الدراسات التاريخية التي تناولت الشعر السعودي الحديث.
2 حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الادباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة دار الكتب الشرقية ص 21.
|