لا أذكر متى بدأت أدرك ان الشعر يغضب، ولا متى بدأت أعرف أسباب هذا الغضب, أساليب غضبه كثيرة، ويمارسها بلباقة مرة وبنزق وضيق وتبرم مرات أخرى, حاولت ان أعرفه جيداً، ولا أظن شاعراً أمضى حياته إلا وهو يحاول التعرف عليه وعلى أسباب رضاه وغضبه واستسلامه وجموحه.
عشت طويلاً معه، أسأله وأعاتبه وأعتذر له، ربما عن ذنوب لم أرتكبها، أو لم يكن في نيتي ارتكابها أو ارتكبتها لا شعورياً، أو ارتكبتها علناً كعادتي.
كنت أطلب منه أن يعطيني مفاتيحه أو واحداً منها على الأقل.
المرات التي كان يكاشفني فيها كانت نادرة، وهذه الندرة فيض وكرم قد لا أستحقه، ولكنه كان يجود بها، ربما بعد أن بدأ يثق بأن إيماننا متبادل, ومع ذلك، فقد كان كعادته غامضاً، متعالياً، وان بدالي انه كان مزاجياً في أكثر الأحيان.
مرة: لم يكن يقول، كان يشير فقط كعادته إلى أنوار تومض وتنطفىء، وإلى موسيقى غريبة تأتي من أغوار سحيقة، تصعد وتهبط، ويطلب مني قراءتها، كان يلمح ولا يصرح، يوحي ولا يشرح أو يفسر أو يعلل أو يحاول إقناعي، ولم يكن يتكلم في المرات القليلة التي كان يتكلم فيها إلا رمزا.
وحتى الآن، ومع كل هذه المعاناة والممارسة للرجاء وتقديم الالتماسات والجلوس الطويل بين يديه، مصغياً أترقب أقل حركة أو اشارة أو ايماءة أو همسة، لم أستطع الامساك إلا بأشياء يسيرة، خيوط رفيعة جداً، ولأن البدايات هي الأصعب وطرف الخيط قد يوصل إلى مفتاح ما، أو إلى أمكنة أو أزمنة أجد فيها مفتاحاً من المفاتيح التي أبحث عنها، فقد كنت صابراً متسلماً له، مقاتلاً حتى نفسي قاتلتها من أجله، وسأبقى.
مرة: فهمت منه، أنني كنت أطلب منه أن يحقق أشياء ليس من طبيعته تحقيقها، وانني كنت أقيسه بمقاييس وقيم لا تمت إليه بصلة {
سمعت مرة وأنا في حضرته صدى خافتاً يتردد بين الحضور والغياب وهو يقول له لك خصائص الفنون كلها، وليس لأي منها إلا خصيصة من خصائصك التفت إلى القائل اللامرئي الذي كان يبتعد وهو يقول لم أجد لديك حقائق جديدة تسعى إلى تسجيلها أو رواية أخبار أو دعوة إلى أفكار أو تأكيد شيء أو نفيه .
أما المفاجأة التي أذهلتني فقد كانت آخر عبارات ارسلها ذلك الصدى وهو يغيب في اللا نهائي يا من لست تعبيراً صادقاً عن شخصية صاحبك أو احساسه الصادق وأدركت انه: ليس صادقاً ولا كاذباً ولا صورة عن قائله أو احاسيسه، أي: لا يمكن أن تصفه بأنه صدق أو كذب وان ما أثبته مثبت وما نفاه منفي.
أما الضوء الخافت الذي كان يأتي من النافذة الصغيرة، ومع أن هذا النور كان بريئاً أحياناً وسيىء النية في أحيان أخرى، ربما لأن النافذة كانت غربية ، فقد علق بذهني منه رذاذ كان يتشكل على هيئة حروف وكلمات وعبارات، تكتب نفسها وتشطبها، بعد أن يبقى منها ذلك الأثر الذي ينسى ولا ينسى تنفصل شخصية صاحبك الحقيقي عن عقله الخالق، ليفهم مشاعره المختلفة، ثم يحيلها إلى شيء جديد .
بقايا الرذاذ كانت تتشكل على هيئة أصداء مثل: لا يهمنا صدق احساسه، ولا صدق تعبيره، ولا جمال أسلوبه، ولا تعبيره عن شخصية صاحبه .
معنى وقت طويل قبل أن يرجع الصدى ما يهمنا هو ان يخلق معادلاً موضوعياً للاحساس الذي يرغب في التعبير عنه، ان يخلق شيئاً يجسم الاحساس ويعادله معادلة كاملة فلا يزيد أو ينقص عنه، حتى اذا ما اكتمل خلق هذا الشيء أو هذا المعادل الموضوعي استطاع أن يثير في القارئ الاحساس الذي يهدف إلى اثارته فيما يستخدم اللغة لخلق شيء محدد وهو يحيل عدداً لا يحصى من المشاعر والأحاسيس التي خبرها في حياته إلى مركب جديد يختلف عنها كما عرفها كتحويل أي مادة إلى مركب جديد ألا ننسى صاحبك ونحن نقرؤك وننسى كل ما هو خارج عنك، حتى صاحبك الذي تتبادل معه النسيان .
لم يكن للكلمات أصوات، ولا صدى، ربما كنت فقط أتخيل، أو أترجم الرموز والاشارات والايماءات التي كان يلقيها هو أو أحد أصحابه، والتي سرعان ما كانت تمحى بفعل مفاهيم جديدة,, هلامية غامضة,, غابة متشابكة من خيوط الضوء السوداء,, تنطفىء بمجرد اشتعالها.
لذلك بدأت اقلدها في أن لا أنقل الأحاسيس كما هي، بل أعادلها، ولا اعتبر عن الاحساس بل أولده في نفس القارئ عن طريق المفارقة بين المواقف المختلفة
كنت أستمع إليه، وإلى أصحابه ومحبيه، والى اعدائه أيضاً، يا لكثرتهم,, ويالقلة المخلصين منهم، من المخلصين من أصحابه فقط كنت أستمع إلى اشارات توحي ولا تقول، تشير أكثر مما تعني، ومنهم كنت أتعلم اشياء سرعان ما تزيل آثارها أشياء أخرى تزيل آثارها شكوكي التي لا تفارقني.
* من كتاب ما هو الأدب لرشاد رشدي بتصرف