سرديات القصة القصيرة في الجزيرة العربية د, عبدالعزيز السبيل |
حين الحديث عن بداية القصة القصيرة في منطقة الجزيرة العربية فإن الحديث لابد أن يبدأ من الصحافة، ذلك أن الصحافة هي العامل الأساس الذي ساهم في تبلور القصة القصيرة وخروجها من رحم الرواية, وهذا الأمر لا يخص منطقة الجزيرة العربية أو العالم العربي فحسب، بل إنه أمر حدث في أوروبا وأمريكا، فالصحافة التي كانت تنشر روايات مسلسلة، أصبحت تطالب الكتاب بموضوعات قصصية تتناسب مع المساحة المتاحة، وهذا أحد الأسباب الذي أدى إلى تبلور القصة القصيرة كفن مستقل.
والصحافة في منطقة الجزيرة العربية بدأت تاريخيا في صنعاء، حيث صدرت جريدة صنعاء سنة 1887، تلتها الايمان سنة 1926، لكن البدء الحقيقي للصحافة في اليمن كان من خلال مجلة الحكمة التي صدرت سنة 1938، وبعدها فتاة الحجاز سنة 1940 التي أعطت اهتماما للقصة القصيرة العربية والمترجمة.
أما في الحجاز فإن تاريخ الصحافة فيه يعود إلى سنة 1908 بظهور صحيفة (حجاز)، ابان سيطرة العثمانيين على الحجاز، وتبعتها صحف أخرى, ثم صدرت صحف جديدة في العهد الهاشمي (1916 1924) فصدرت القبلة (1916 1924)، والفلاح (1920 1924)، وكل هذه الصحف صدرت في مكة المكرمة, وحين دخول الملك عبدالعزيز إلى الحجاز تغيرت مسميات الصحف وصدرت صحف جديدة من ابرزها ام القرى (1924)، صوت الحجاز (1923)، وفي عام واحد (1937) صدرت المدينة المنورة، والمنهل، وكان لهما دور في تطور فن القصة القصيرة.
في الكويت بدأت الصحافة سنة 1928 بصدور مجلة الكويت التي اسسها عبدالعزيز الرشيد، واستمرت عامين فقط, ورغم ان محمد حسن عبدالله يرى انها لم تهتم بالقصة القصيرة، فإن إبراهيم غلوم يسجل اهتمامها بالقصة القصيرة.
وحين نصل إلى البحرين فإننا نتذكر جهود الرائد الثقافي عبدالله الزائد الذي أصدر جريدة البحرين سنة 1939, ولعبت دوراً مؤثراً في الحياة الثقافية في البحرين, وامتازت هذه الجريدة بأنها منحت القصة القصيرة اهتماما خاصا بنشر مقالات حولها، اضافة إلى نشر الكثير من القصص لكتاب عرب ومحليين، إلى جانب قصص مترجمة, كما نظمت في مرحلة مبكرة جداً مسابقة للقصة القصيرة، (مايو 1942)، لتشجيع القراء على خوض تجربة هذا الفن الجديد، وهذه مرحلة وعي مبكرة جدا على مستوى المنطقة, أما عن بداية القصة القصيرة في المنطقة فقد جاءت في البدء على شكل مقالات تعنى غالبا بالشأن الاجتماعي، والرغبة في اصلاح كثير من الاوضاع الحياتية, بمعنى ان الباب الذي دخلت منه القصة القصيرة لم يكن على اي حال من الاحوال الباب الفني، وإنما دخلت من باب الاصلاح الاجتماعي, وهذا أمر لا يخص منطقة الجزيرة فحسب بل لعله يشمل كافة المناطق العربية.
فحين ننظر إلى بداية القصة القصيرة في مصر مثلا، نلاحظ انها كانت تتوجه بشكل مباشر إلى الاصلاح الاجتماعي، وكان الكتاب يسعون نحو تحقيق هدف اخلاقي يتمثل في الحث على الفضائل, وهذا القول ينسحب على كافة الاقطار العربية، في بداية نشأة القصة القصيرة فيها، بصرف النظر عن زمن النشأة، بمعنى ان التجربة ذاتها تتكرر في كل قطر تقريبا, وأكدت معظم الدراسات التي تناولت نشأة القصة في الادب العربي أنها كانت حاجة اجتماعية قبل ان تكون حاجة فنية، بمعنى ان اضطلاعها بوظيفتها كان ابرز الدوافع إلى كتابتها ، كما يذكر عبدالله أبو هيف.
والقصة القصيرة حسب رأي عبدالله العروي هي الشكل الادبي المطابق لمجتمعنا المفتت، المحروم من اي وعي جماعي , ويرى نجيب العوفي ان القصة القصيرة جاءت منذ بداية القرن دليلا على التململ الوطني القومي، وعلى الصيرورة الاجتماعية التاريخية، ومؤشراً ثقافياً بالغ الدلالة على ما يسمى (النهضة) أو (المعاصرة) أو (الحداثة) , ومن منطلق مقولة تشيكوف بأن القصة القصيرة كذبة متفق عليها بين القاص والمتلقي ، يعلق العوفي بقوله: أصبحت الكذبة الفنية الصغيرة أداة لهتك الاكاذيب الكبيرة التي تخنق الضمير العربي، وتعريه لهذا المسكوت عنه، الذي هو الحقيقة .
وإذا نظرنا إلى هذه الرؤية التي جاءت في سياق الحديث عن القصة المغربية، فإننا نجد الامر نفسه يحدث تقريبا في واقع القصة القصيرة في هذه المنطقة, فإذا كان تناول القضايا الاجتماعية يتقارب لعدم تقاطعه مع الخطوط الحمراء التي وضعها النظام الرقابي على ما ينشر، أو تخيلها الكاتب من واقع معايشة الاوضاع السياسية والاجتماعية، فإن تناول القضايا ذات الابعاد الوطنية والسياسية والفكرية يتفاوت تفاوتا كبيرا من منطقة الى اخرى ومن زمن إلى آخر,ذلك ان الاوضاع السياسية والاجتماعية، والحريات المتاحة للكتاب، تختلف مكانيا وزمانيا, وكثير من هذه الحريات والقيود قد لا تكون مكتوبة لكنها اجتهاد من الكاتب والناشر, وإذا وضعنا الرقابة الرسمية جانبا فإن الرقابة الاجتماعية تكون اكثر قوة وتاثيراً, وأحيانا تتحول الرقابة الاجتماعية إلى رقابة رسمية بحكم قوة التأثير الاجتماعي, والمنطقة بأجزائها المكانية المتفاوتة مرت بظروف مختلفة جعلت المستوى الرقابي يتفاوت بشكل كبير، وبالتالي فإن المعالجة القصصية لكثير من الموضوعات اختلفت باختلاف تلك الظروف بين التصريح والتلميح، وبين التركيز على الاوضاع الاجتماعية، وتوجه نحو موضوعات سياسية, ولعل سرديات القادمة تقف جزئيا عند بعض من هذه الجوانب.
|
|
|