في اليوم الذي كنت فيه مغرمة بقراءة الذكريات في داخلي جاءتني الذكرى في رأسي تمازحني، وبدأ الشوق يمر بجنون دافىء داخل قلبي، والحنين الى المكان الجميل تلك الشوارع الواسعة وبيوتها البسيطة الشكل,, ذكريات الطفولة,, لا مفر للانسان منها فهي ملتصقة في داخلنا وهي التي تكوننا عندما نكبر بكل آمالنا وكلما تحدثت عن الذكريات امام ابنائي تدغدغني بأيامها الحلوة، وعن القرية المجاورة لمدينتنا التي يعيش فيها الناس بقلب واحد,, بفرح وحزن واحد، حينها طرق الشوق قلب ابنائي وازداد فضولهم للقيام بجولة في وسط المدينة,, لم ارفض لكني استصعبت ساحة المدينة والسير في شوارعها,, رغم ذلك وافقت,, نظرت الى الساعة فكانت عقاربها تزحف بلهفة صوب الرابعة عصرا,, خرجنا جميعا بحماس حيث بدا علينا السرور طافحا على وجوهنا,.
كانت خطواتنا تتبدل من السريعة الى البطيئة,, احتضنتنا الارصفة المتمايلة، وكانت المحلات التجارية المرصوصة فوقها بترتيبها تشد الانظار اليها,, كنا جميعا ندخل فيها بنظام فتدور بيننا التعليقات على الاشياء المعلقة داخلها من ملابس واحذية وتحف,, كان ابنائي الثلاثة نشطين في تلك الجولة,, كنا نسير غير مبالين بما يحدث في الشارع المزدحم الذي كنا نقترب منه، ولكن الناس بدأت تتراكم من حولنا واخذنا نصطدم بالاجساد المختلفة وازداد الاحتكاك ثم وصل الى درجة الضرب والرفس,.
امسكت ابنائي بشدة خوفا من ان يضيعوا مني,, نظرت الى الوجوه بعضها فاترة اللون وبعضها يبكي وبعضها شاردة محلقة بعينها,, احترت في امري وارتبكت خطواتنا وتشتت افكارنا,, لم اعرف التحرك بهم، سارعت الى اليمين لأبتعد بهم عن الاجواء المحيطة بنا والتي اخافتنا كثيرا، لكن النواح في الطرقات كان له طابع غريب كلما ازددت قربا بأبنائي الى جهة الصوت يزداد النواح.
وهذه الطرقات لها لونها الخاص والعتمة المخيفة، ونوافذ المدينة لا تفتح ابدا وكنت اتردد في الوصول الى المكان لكن الاطفال الذين اجرهم في يدي يحاولون سحبي الى جهة الصوت في خطوات متعرجة,, كنت انفض الغبار المتراكم على اثوابنا واحذيتنا من اثر اقدام الناس المتسارعة.
حدثت نفسي:ماذا حدث للمدينة؟
ورغم قوة خطواتنا في هذه الشوارع الا انها لا تريد ان تنهض من غفوتها,.
هذه المدينة تعيش بشوارعها المظلمة كالارامل,, اصحاب المدن انفسهم غدروا بها واصبحوا اعداء لها وكل واحد يتهم الثاني، وانا ادور واتلفت بأطفالي,, تعثرت قدماي عندما سمعت الصرخة مليئة بالالم والوجع، خفت اكثر,, توقفت مذعورة من رجل تغرق عيناه في غمامة من الذبول,, غيرت اتجاهي فأخذت ارجلنا تتعثر في الاشياء المتواصلة,, برك المياه الكريهة الرائحة التي خلفها المطر تزكم الانوف,, وقفت على جانب الطريق اتأمل المناظر:
هذه ليست المدينة التي تكلمنا عنها.
وجهت الكلام لابنائي، كانوا يحملقون في وجهي والغرابة تكسو اعينهم,, لم يعد لي متسع للشرح، عاجزة امام هذه الاشباح,, اصبحت حائرة وسط الزوبعة.
2
كنت اصرخ كلما زدت غضبا، لكن دوني كل الدروب موصدة والعيون بعيدة تنظر الى السراب,, لا اعتقد اننا مجبرون على طأطأة رؤوسنا لكن ما زال الخوف يسكن غرف القلوب,, سمعت ضحكات تتلاحق فيما بينها كطلقات تطارد خائفا، عند ذلك الزقاق الضيق شعرت بانفلات احد ابنائي من يدي، وعندما انتهينا من الزقاق المخيف نظرت الى وجوههم فرأيت اثنين فقط، فزعت وتمزق قلبي:
اين ذهبت ياقلبي النابض؟
لا مجيب، فقط صدى صوتي,, صرت ابحث عنه في كل الاتجاهات,, جاءتني امرأة شاحبة اللون وخطت صوبي مصطحبة معها صورة صبي وسيم، القت بسؤالها كالرصاصة دون ان تلتفت لملامحي الذاوية ان كنت اعرف صاحب الصورة، اجبتها انني لم أره لكنني شاهدت شبيها له في تلك الشوارع البعيدة المظلمة,, تركتها وسؤالها ما زال قابعا خلف وجهها الجميل.
حاولت اخفاء خوفي عن ابنائي بينما كنت افكر في فساد هذه المدينة وابني يشير الى فتاة عشرينية فاتنة القد ولكن عينيها غائرتان تبحث عن شيء ما، ممسكة بثوب ابيض وتجر دموعها,, تجاهلتها وفي قلبي يضطرم الاستفهام,, يا الهي كل ذلك يدور في شارع الذكريات:
اين اذهب بكم الآن؟
نطق طفلي الصغير بسرعة:
نعود الى البيت.
كيف نعود ولم نر اخاك حتى الآن؟
رأيت رجلا يتشبث بعربة متجها يمين الشارع ولم اتمكن من اللحاق به لأسأله ان كان قد شاهد ابني,, ضربت رأسي بيدي يا للفاجعة اين انا الآن؟ كانت الشوارع التي امر بها تتغير، لكن الاحوال في المدينة ليست مستقيمة,, شعرت انني هائمة مع ابنائي في هذه الدروب التي لا نهاية لها,, احسست ان الدم ينز في عروقي بينما لونه الاحمر القاني يصبغ اناملي,, حاولت ان احبس دموعي التي فرت فجأة وصرنا نتخبط بأقدامنا في الشوارع المظلمة.
3
لم انس ذلك العجوز الذي ارهق صوتي بالصراخ، كان يدير ظهره ويخطو في الطريق، كأن جسده تمثال صامت مغروس في الارض مثل الحياة في المدينة المنغمسة في الظلام البارد.
كانت الطرقات مليئة بالحصى التي تشبه افنية القبور,, عندما يفزعني الصوت كنت اتباطأ في سيري، حتى اصبحنا نمشي على اطراف اصابعنا، وضربات شديدة الخفقان اخافتني,, كانت صرخة مأساوية تلك التي صدرت من امرأة عجوز، وحين رأتني قالت بصوت عال:
كنت انتظره ولكنه رحل قبل ان يكبر ويصبح مهندسا، يا ويلي ذهب مع الذاهبين.
لم افهم معنى كلامها، اذ راحت تخمش خدها وتبعثر الغطاء الذي لا يكاد يستر شعرها,, لم اتمكن حتى من مواساتها، لكنها جعلتني افكر في ابني,, تجاهلتها وعدت للبحث عن طفلي الضائع، الذي افلت من يدي كما تفلت بعض التساؤلات عن الاهمال في هذه المدينة فقد امتلأت صناديق القمامة بالاوراق والعلب وليس لها اغطية تحبس روائحها النتنة,, تنازلت عن هذا السؤال وغيره الكثير حتى اتفرغ لابني.
فجأة تحولت عيناي رغما عني صوب الرجل ذي الوجه المألوف وهو يركض على هذا الرصيف الطويل والشمس تلسع ظهره العاري ورأيت وراءه رجلا آخر,, تتبعت خطواتهما بكل حماس ومع ذلك فقد غابا عني,, ضممت طفلي الى صدري وقدمت لهم اعتذاري عن كل هذه المصاعب واخبرتهم باننا سنعود للبيت حالما نجد اخاهم.
4
ابتلعنا شارع ضيق,, كانت الحجارة فيه مبعثرة في كل اتجاه, صوت امرأة فيها غصة الم,, بادلتها الحديث,, سألتها عن حزنها ردت وهي ترتجف:
هناك رجال كبار لهم الهيبة في لباسهم وسحنتهم الحادة، يبيعون السموم في صناديق جميلة مزخرفة يشتريها الناس بثمن غال دون ان يعرفوا محتوياتها!
اخذتها من يدها لتدلني على مكان الصناديق فسرنا وما لبثت ان تبعتنا نساء اخريات وشيوخ واطفال وبدأنا السير بسرعة,, واعتقدت ان شقائي سيطول اذ لم اعثر على ابني حتى الآن ولكني ارى قليلا من النور في طريقي,, اخذنا نسير على الطريق الذي رسمته لنا المرأة اذ لم تتجرأ على متابعة السير معنا,, دهشت لرؤية هذا الفوج الضال من الاطفال,, وعند مرورنا في تلك الشوارع المبعثرة شرعت في الثرثرة مع ذاتي,.
اننا ما زلنا في عصر يمتاز بالعقم,, ما زالت افكار الناس لاتثمر واوراقها خريفية يابسة صفراء,, رغم قلقنا الشديد لهذه الحالة لا ادري لماذا لا نحاول تغيير هذا المنظر القبيح الذي نتعايش معه دون تردد او خوف,, والشيء المفزع والمضحك اننا نمرح ونرقص ونقفز بكل سرور ونطلب من العالم ان يتفرج علينا يا للعار,, اقتربنا من بيوت مضيئة في كل جوانبها واشجارها عالية وفي كل زاوية من زوايا البيت تسكن صناديق مزخرفة حسب وصف تلك المرأة ويه تتوزع على الناس في المناسبات وتباع مع سرها الغامض ولا تدري كيف تتواجد في شوارعنا ولا يعرف سرها الا اصحاب العيون الشاحبة والانامل المرتجفة.
فجأة تجمدت قدماي مكانهما عندما رأيت الرجلين اللذين يركضان وراء بعضهما البعض، كانا يدلفان داخل مخزن كبير مضاء تتراقص فيه الصناديق وكان يصحبهما رجل خشن الملامح، افزعني بقامته العالية وكانت عيناه تحتضنان جزءا كبيرا من وجهه ونشوة صارخة، خمنت انه زعيمهما عندما مر بي وكاد ان يضربني.
عندما لعنته امام الناس والرجال الذين يخدمونه بانزال الصناديق في الشوارع، نفخ صدره العريض حاجباً عينيه وراء نظارة مزركشة الجوانب وصرخ في وجهي:
وانت ما دخلك في هذا الامر انت لست سوى امرأة سافلة!
ولكنك تؤذي الناس بهذه الصناديق,, حرام عليك نحن في امس الحاجة الى ابنائنا.
صرخ ثانية:
لا تتحدثي بهذه اللهجة المأساوية، فلم احث احدا على شراء صندوق!
اخذت العبرة تختنق في صدري، ورغم ان يديه تهتزان خوفا لكنه لم يعرني اي اهتمام,, تبعته عندما وجدته ترك مكانه,, في تلك اللحظة صوب المصباح الذي يستقر وسط الرصيف المقابل للبيت العالي رجل يلف رأسه بقطعة قماش ملونة وقدماه تقبلان التراب، مليئتين بالخدوش وآثار الجروح الملتئمة وكان وجهه اصفر وفي عينيه ذهول غريب.
ومن بين الافواج المتزاحمة شاهدت ولدي فضممته الى صدري وتشبثت بأخويه حتى لا تنتهي جولتنا بمأساة ولكنه بدأ يصرخ ويتلفظ بكلام لم افقه له اي معنى.
وانا امضي صوب البيت التفت للوراء، شاهدتهم يحملون الصناديق لساحة واسعة ويرصونها في مكان منزو، وبدأ الناس بالتجمهر حولهم وكلما ازدادت الصناديق ازدادت لهفة المتجمهرين وعندما هم احد الرجال بالصعود على احد الصناديق وضع الجميع ايديهم على جيوبهم يتحسسونها استعدادا للمنافسة.
أميرة المحسن