يقول الشريف الرضي وهو فوق راحلته وقد غادر الوطن:
ولقد مررت على ديارهم وطلولها بيد البلي نهب فوقفت حتى ضج من لغب نضوى، ولج بعذ لي الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت عينها الطلول تلفت القلب |
ويقول محمد الماغوط وقد ركب القطار وغادر مدينته
ذهبت,, غادرت
ولكن القلب عاد
مع دخان القطار.
أجزم بأن المطلعين السابقين على اتساع الهوة التاريخية بين قائليهما هما مطلعان طلليان، قلبان ينوءان بوجع الرحيل.
وعلى الرغم من أن هناك ثلة من شعراء العصر العباسي، قد ثاروا ضد القصيدة ذات المطلع الطللي ورفضوا الالتزام بعمود الشعر كما قال أبو نواس شيخ المجددين آنذاك:
مالي بدار قد خلت من أهلها شغل ولا شجاني لها دار ولا طلل |
إلا ان ثورتهم تلك قد رفضت الجانب الشكلاني في القصيدة أو القوانين التي تحوّل القصيدة إلى ركام من الحذلقات اللفظية واللغوية الخالية من الاحساس والمعنىّ والتي بدورها تتنكر لهوية الشعر من حيث كونه قيمة فنية خالدة تختزن عصارة التجربة الإنسانية عبر العصور.
وإلا المعاني مبذولة في الطريق كما نطق بذلك جدنا الأكبر الجاحظ، والذي صور ببساطة الشرخ الواضح الذي من الممكن أن يكتنف العلاقة بين الشكل والمضمون.
الشعر هو صيرورة دائمة التبدل والتحول، ولكن المعاني الخالدة تبقى متجوهرة ومضيئة في أعماقه، تماماً كمياه النهر الدائمة الجريان والدائمة الثبات في الوقت نفسه.
والشريف الرضي شاعر عباسي، والماغوط شاعر معاصر، وما ألف سنة تفصلهما إلا لتؤكد بأن للشعر معانيه المتفوقة على مصائد الزمن وأولئك الذين يصرون حصر الشعر في قوالبه وألفاظه الشكلية بدعوة الحفاظ عليه,, هم أول من يمتهنه.