من ضرورات الاجادة والابداع في الشعر والادب عدم الافتعال بحيث يساير الانسان واقعه ومعيشته المعتادة مهما كانت بسيطة خالية من مظاهر البطر والفخر والخيلاء والا اصبح كالمسلسلات المصرية التي تتكلم عن الجامعة والشركة وما يحدث فيهما من مظاهر الفوقية والتعالي التي ليس لها وجود في مجتمع يعج بمشاكل البسطاء ومن هم دون ذلك يعانون الفاقة والعوز.
ومن الطبيعي اننا لا نريد الواقع كما هو تماما بل لابد من اضافات خيالية وتركيبات لغوية تتجاوز لغة الرد العادية دون ان نقصي ذلك الواقع او نزدريه ولذلك ينبغي ان نكون في منطقة وسط بحثا عن الجمال الادبي، الذي يكمن في تلك المنطقة الوسط بين الملقي والمتلقي وهذا محور الصعوبة في الاعمال الادبية، وفي الحكم عليها كذلك ومن نافلة القول ألا وجود لتلك المعايير في خضم النقد الانطباعي الدارج.
طافت بذهني تلك التنظيرات النقدية وانا اقرأ قصيدة للشاعر المبدع المنسي محمد البليهي وهو ورغم انه لا يقرأ ولا يكتب الا انه ولتمكنه من الاليات الشعرية فانه يطبق ما يطرحه اكبر النقاد من ضرورات تميز الابداع من غيره وهذا ليس في كل ما قال بطبيعة الحال.
القصيدة فيها مناجاة ومحاورة مع زير معد للشرب، طلبا للأجر والمثوبة في صندقة (ورشة) أخذ الشاعر ما كلفته من اموال عن طريق الدين والذي يترتب عليه تلقائيا زيادات في الاعباء المادية التي تمكن منها السوء بطريقة فاحشة موجعة والذي حدث ان ريحا عاتية هبت اقتلعت تلك الصندقة وكسرت ذلك الزير فكان هذا رمز لقمة الخذلان والانكسار فماذا قال الشاعر؟
يا حظ ياحبك لكثير المخاسير الصندقة وظلالها ما لقيناه من حسن توفيقي كسر باقي الزير الشاهد الله يوم زيري نثر ماه أبكي على زيري ودمعي شخاتير ولا غلق اسبوعين من يوم جبناه دين الى دور السنه دون تحضير ومتسلف آجارنا يوم شلناه |
وهو بعد هذا المطلع الممزوج دعابة وجدا يتجه اتجاها اكثر جدية فما هذه الواقعة الا واحدة من وقائع كثيرة تعرض ويتعرض لها دون توقف على الاقل فيما يرى وهو بعد هذه المفردة الحياتية يخرج بتعميمات تتناول كثيراً من الجوانب المعاشة فالمهموم كثير التطلع الى السماء انتظارا للفرج الرباني.
وأخايل الجوزاء بهم ومعاسير ما وردت سود المعاسير تنفاه وتقضي حياتي بين هم وتفكير متمشكل في وقتنا اللي درسناه |
وهذا ما يدفع كثيرا من الناس الى احتقار ذلك الانسان الفقير وربما التعدي على حقوقه فيتضافر الناس مع الدنيا فيزداد الالم والمرارة وكلما قست الدنيا اكثر ازداد الشامتون والمحتقرون حتى ولو كانوا هم انفسهم من طبقة اقل وهذا ماثل في قوله:
وبقعا على راسي تدور اسود السير سيور حفار على العكس ممشاه وليا ترادى الحظ يطمع بك الطير الذيب يرقد والحصاني توطاه |
من صلب حياته الطبيعية الواقعية نرى وصف الحفار وكيف تدور سيوره وكيف يعافك الذئب,, ويدعك للثعلب فأنت فريسة متروك للحيوانات المحتقرة المخادعة الذليلة وفي كل هذا رمز واضح يفهمه اللبيب,, والمعنى المراد في القصيدة كلها يظهر في البيت الاخير فهو المحرك للقصيدة بكاملها وهو (الصوتيم) المسيطر على اجواء النص.
إن المتمكنين والمتمكنون وحدهم من الشاعرية هم الذين يمارسون تلك الوسطية بين الواقع والخيال,.