للحزن في هذه الدنيا مصادر كثيرة ومتعددة ينساب في فؤاد الضحية كانسياب الزيت تشعر بشيء من القبض فتأخذ بشرتك طيفاً من الأشكال ثم يتظاهر على وجهك كأنما هو فرع من الفرح.
في كل مرة أمر من أمام محل علق عليه لوحة (للتقبيل) أشعر بالتعاطف فأصنع في خيالي قصة متكاملة لهذا المشروع تبدأ منذ أيام التوقعات العظيمة حتى وقت تعليق لوحة الخلاص, فهذه المسافة الممتدة كافية لبناء حزن يتحول إلى قطعة منك ومن جسدك.
فالحزن الناشئ من الفقد على سبيل المثال تعالجه الايام بصيرورتها ويطمره الايمان في النهاية، وهو ما يعتقد البعض انه اشد أنواع الحزن ولكن إذا تأملنا فيه جيدا نلاحظ انه قائم على سياق الحياة, كما ان هناك أحزاناً أخرى كثيرة تتنامى وتنشأ من مواقف لا نهاية لها, ولكن هناك حزن واحد هو اشد الأحزان كلها وهو هزيمة الأماني واندحار الأحلام, وأن تذهب بقدميك إلى الخطاط وتصمم لوحة عريضة ليقرأها كل العابرين تعلن فيها كامل هزيمتك وانهيار أحلامك على الملأ, عندما أشاهد هذه اللوحة أحيانا أتمنى أن أرى هذا الرجل الذي أعلن على الملأ كامل هزيمته, ثم أحاول أن أصمم في خيالي ما جرى قبل أن يقوم المشروع: المونولوجات الداخلية ما دار في داخله وكيف حاور نفسه واقنعها بالمشروع، ثم الحوارات التي دارت بينه وبين أصدقائه وأهله، ثم كيف صمم الخطط ونظر للمستقبل ودرس الامكانات وكيف فارقه النوم في ليال طويلة وهو يحلم بالملايين وكيف فرخ هذا المحل محلات وأصبح فرعا بعدما كان اصلا، وأحلام الشبح واللكزس، وسواق المدام ومشاكل الخادمات الثلاث والقصر وملحق الشباب وفلة صغيرة للوالدة عشان تستقبل ضيوفها على راحتها، واستراحة بعيدة عن البيت عشان ما يزعج أهله، وشقة في لبنان أو خلها شقتين وحدة له والثانية للعائلة، والذبايح كل جمعة لأنه سيلتزم بدعوة كل الأسرة الكبيرة في كل أسبوع الم يصبح عميدها؟! ثم مرحلة الركض من مكان لآخر والتغيب عن عمله في الوزارة الركض للغرفة التجارية ووزارة التجارة ومكتب الاستقدام والعمدة والشرطة والبلدية والسخاء مع مصممي الديكورات واللطف مع العمال الذين ينجزون ديكوراته والاقتراض من سعد وناصر (كلها شهران أو ثلاثة وهي عندك إن شاء الله).
وأي اعتراض من أحد على المشروع كان رده (وش يدريك أنت,,؟!,, الأدوات الكهربائية فيها فلوس بس من الذي يعرف يشتغل، الجوالات وراها فلوس، المطعم إذا زبطناه تزبيط خذ فلوس، تشوف اصبر علي وجه سنة بس,,) وطبعا الميزانية قامت على النظرية الاقتصادية المعروفة ب(قل).
إذا حسبها وبلغت ستة وثلاثين ألفا وأربعمائة مثلا, يحدث نفسه (قل أربعين ألفا) أحسن للحساب وإذا حسب كلفة الديكورات سبعة عشر ألفا وستمائة واثنين وعشرين ريالا (قل عشرين ألفا)، وإذا حسب كلفة الفواتير ثمانمائة وتسعين ريالا (قل ألف)، وإذا كان المجموع في النهاية سبعة وتسعين ألفا (قل مائة ألف) وهكذا قل,, قل,, قل,, وتشكلت الميزانية,.
وعندما وضعت هذه الأحلام والهواجس على الأرض ظهرت له الدنيا بوجه غير الذي كان يشاهده في أوهامه.
لن تستطيع حتى لو اقتحمت أعماق روحه أن تعرف متى بدأت الهزيمة تأكله, متى بدأ يعلن أمام نفسه بالتحديد أن المشروع انتهى, انها لحظة بدأت من اللحظة التي بدأ فيها المشروع لأن الهزيمة الحقيقية تبدأ مع بداية الوهم وخداع النفس.
yara2222*hotmail.com