Monday 20th December, 1999 G No. 9944جريدة الجزيرة الأثنين 12 ,رمضان 1420 العدد 9944


نص تهميش على أوراق رمضان للرشيد
قراءة تأملية
صالح بن عبدالعزيز المحمود

اعتدنا في مناسباتنا الدينية ان نبتلى بنصوص يظنها أصحابها مواكبة لتلك المناسبات، وهي مع جزيل الأسف خلاف ما ظنوا، إذ تبدو مقفرةً فنياً، تغرقُ في التقريرية الفجَّة، والخطابية الساذجة، والمضمون الوعظي المباشر، فلا يطرب لها إلا عامة العامة !!
ولكن,, مع اطلالة هذا الشهر الكريم، يبدو ثمة أمر جَدَّ!!
***
في ملحقها الثقافي الصادر يوم الخميس، غرة رمضان المبارك نشرت الجزيرة نصاً للشاعر المعروف: عبدالله بن سليم الرشيد، بعنوان تهميش على أوراق رمضان ، ولأن الشاعر من الذين يحترمون فنهم، ولأنه من الذين لا يخوضون كثيراً في شعر المناسبات بطريقة تقليدية فقد توقعت ان يخالف نصه النصوص التي أشرت إليها آنفاً وقد صدق حدسي وتوقعي.
أعترف أن عنوان النص لم يكن مناسباً البتة، وكاد النص معه يفقد ظلماً الروعة والعمق اللذين احتواهما في متنه ، لأن القارئ العادي قد يتجاوز النص إذا لم يرق له عنوانه.
كلمة تهميش لا يعجبني الاستخدام المحدث لها، ومثلها هامش وهوامش ولا أدري بأي مسوغ يستخدمها الباحثون دلالة على المعنى المعروف عندهم، لأن الهمش الكلام الكثير، وأحياناً الذي لا فائدة منه,, لست ألمح علاقة واضحة بين المعنى الأصلي والمستخدم حديثاً.
وإذا تجاوزنا التهميش إلى العنوان,, بصفته وحدة متكاملة لم يصعب علينا الإحساس بنقله من جهة، وعجزه السافر عن مواكبة ثراء النص من جهة أخرى، ولذا أقترح على الشاعر تغييره تغييراً عاجلاً!!
ولنترك العنوان وندلف إلى النص,.
إن علاقة الإنسان مع ذاته تبدو غريبة وغامضة،ومجرد البحث عن أسباب الصراع المختلفة التي تنتاب الإنسان في حياته يبدو أمراً عسير المنال، ولذا لا نستطيع كما لم يستطع الشاعر تفسير التناقض السافر في كثير من تصرفات هذا الكائن الحي، والتي منها:
وأسير الذنب مكبول الرؤى
همّ بالرجعى ولما يفعل
وإذا مسّ الهدى أضلاعه
ردّه عنها بشتى العلل
والأغرب من علاقة الإنسان مع ذاته ومع الدنيا، فهو يعرف جيداً حقيقتها وحقيقة مصيره معها وبعدها، ومع ذلك مازال يهادنها.
خفّ للدنيا وألقى نفسه
بين أحضان بغيٍّ مُطفل
ولنتأمل الوصف مطفل نجد له أثراً عظيماً في إثراء الصورة؛ إذ حوى ثروة زاخرة بدلالات غنية جداً، مشبعة بالحركة، فالدنيا بغي احترفت البغاء منذ أمد طويل، وهي متمرسة في الرذيلة، خبيرة بها والأحمق ألقى نفسه في أحضانها مع علمه بذلك!
***
والأغرب من علاقة الإنسان مع ذاته ومع الدنيا، أن الصراع الذي يعاني منه الإنسان المذنب راجع إلى الشعور بالذنب، وهو بسبب هذا الشعور لا يستطيع الاستمتاع بذاته أو لنقل: بذات موحدة، ومع شعوره بذنبه كما أسلفنا إلا أنه لا يستطيع مختاراً الرجوع عنه، هذه الفلسفة النفسية اختصرها الشاعر في بيت مدهش.
عجباً من أغبر ذي شعثٍ
مَرَّ بالنهر فلم يغتسل!
وكما ساهم الوصف في البيت السابق بإثراء البيت بدلالاته الفنية ساهم الفعل مَرَّ بدلالاته الفنية نفسها، فالإنسان المثقل بذنوبه بدليل: أغبر ذي شعثٍ كان بامكانه التخفف منها، لأنه الوسيلة كانت مواتية قريبة، لكنه لم يفعل وهذا ما دعا إلى التعجب.
وإذا كان الشاعر لم يأت بجديد عندما رمز بالاغتسال إلى التوبة والاقلاع عن الذنب، فإنه قد انفرد برمز جديد لم يسبق إليه على حد زعمي عندما رمز بالنهر لموسم الخير رمضان ، على أن الروعة التي تذوقت طعمها حلواً لم تكن في مجرد الرمز، ولكن في السياق الذي جاء فيه.
وأزعم أن النص يفيض برمزية متعددة الايحاءات تتناول حالات نفسية متعددة القراءات لا تتسع هذه القراءة الموجزة لعرضها.
***
أعترف اني لم أفهم كما أني استغربت سر الانتقال المفاجئ إلى مخاطبة الذات في الأبيات الثلاثة التي تسبق البيت الأخير:
يا أنا هاك يدي فاعرج معي
لمدى يسبح في الضوء العلي
كم تناثرت على دنيا الهوى
وأرقت العمر في قفر خلي
تحرق المندل في موكبها
آه لو تدرك قدر المندل
هذا الانتقال دلنا عليه جنوحه إلى مخاطبة ذاته: يا أنا ، وليس له عندي تفسير مقنع إلا أن يكون الشاعر منذ البداية يتكلم عن نفسه وهو احتمال بعيد أظن بل أجزم أن الشاعر لم يقصده، إذ لا معنى أن يخفي نفسه في بداية النص ثم يظهرها في النهاية، والذي أزعمه هو أن الأبيات الثلاثة قد أقحمت في النص إقحاماً إذ دونها يسير بشكل واقعي ومتزن.
وأقف أمام قوله:
يا أنا هاك يدي فاعرج معي
لمدى يسبح في الضوء العلي
فمع شيوع مخاطبة الذات وتجريدها، وفلسفة أنت أنا إلا أن الشاعر تجاوزها بإبداع منقطع النظير، عندما قال هاك يدي ولكم أن تحاولوا إن استطعتم تخيُّل هذه الصورة داخل عقولكم لتستجلوا حقيقة الإبداع الذي أتحدث عنه.
ويبدو أن الشاعر في هذا البيت يريد الخلاص من همٍّ يؤرقه، وينتظر من القارئ القيام بهذه المهمة رغم أنه لا يكشف له شيئاً مما في نفسه ربما لأنه لم يفهم نفسه بعد!!
وتبلغ القدرة الإبداعية لدى الشاعر ذروتها في قوله:
يالزهر الروض لو يدري بما
يتمطى في ضمير المنجل
هذا البيت وحده يمثل نصاً متكاملاً فنياً، إذ هو صوت متعدد الإيقاعات والنبرات، زاخر بالدلالات والإشارات، تتزاحم فيه الألفاظ والمعاني الموحية، كما أنه يحتضن عالماً دينياً تموج فيه التجربة التي اختزنها الشاعر بين حنايا قلبه، وفي تلافيف عقله، حتى إذا نضجت أخرجها في ثوب قشيب بديع، يتجلى في روعة التصوير يتمطى في ضمير المنجل .
ولأن البيت فاق الروعة نفسها، فإني أجزم ان الجزيرة وبخطأ مطبعي استبدلت لم بلو ، والأصل لو يدري ليسلم الشطر من ضرورة إشباع كسرة الراء والفعل مجزوم بحذف حرف العلة دون أن يختل المعنى، ولو كان الأصل لم يدر فإني أجد نفسي مضطراً إلى قراءته بلو، حتى تبقى روعته لا يعكر صفوها شيء.
***
ويأتي البيت الأخير:
رُبَّ نارٍ جَدَّ في إيقادها
موقد لكنه لم يصطل!
من عادة الرشيد أن يلخص تجربته الفنية التي تؤديها نصوصه في بيت أخير يحشد فيه إبداعه فيكون ختاماً جميلاً وموحياً لنصه وهكذا كان البيت، فهو يوحي بعمق التجربة، واكتمال الشعور على أنه منفصل عن الأبيات الثلاثة التي تسبقه معنوياً وشعورياً وهذا يؤيد زعمنا إقحامها في النص!
وبعد,.
جاء نص تهميش على أوراق رمضان غنياً مكتنزاً بدلالاته اللفظية التي تخفي وراءها عمقاً في المضمون، إذ تجاوز الشاعر مرحلة معالجة الظواهر إلى تأملها وكشف ما فيها، وهو في سبيل ذلك يبحر في أعماق الذات الإنسانية يستجلي حقائقها، ويسبر أغوارها.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

الطبية

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved