لا وقت للصمت ليل ودعاء ومطر فوزية الجار الله |
منذ أربعة عشر قرناً كان رمضان ولا يزال موسماً جميلاً رائعاً تهطل علينا نسماته الروحانية وتحفنا أجنحته الخفية فتحيل ذلك السكون اشتعالا وتلك الكآبة إشراقاً,, فما بالنا حين يتزامن قدومه وفصل الشتاء عندها يصبح أكثر دفئاً وألقاً حيث لا أعذب ولا أجمل,, لا تعب ولا جوع ولا عطش وإنما لحظات نورانية مليئة ممتعة,, وربما يكون الأمر الوحيد الذي نعانيه هو قصر الوقت حيث نتمنى لو يطول ليصبح اليوم يومين والليلة ليلتين او ثلاثاً لأننا لا نمله أبداً رغم اختلافنا كثيرا في سبب ذلك الإحساس الدفين بقصر الوقت، بعضنا لأنه ينام وقتاً طويلاً من النهار وأطرافا من الليل وبعضنا الآخر وأقصد النساء غالباً لانهن يقضين ساعات طويلة في المطبخ,, والبعض الآخر وهم كثرة ولله الحمد يجد منتهى المتعة والراحة في تكثيف العبادة ما بين صلاة وقراءة قرآن، ولذا يرغب دائماً لو طال الزمن,,
في العام الماضي مررت بتجربة رائعة لا تغادر ذاكرتي حيث قضيت بضعة أيام من العشر الأواخر من رمضان الماضي في أطهر واقدس بقعة على وجه الأرض,, في مكة,, كانت من أمتع الأيام وأجملها ولا أنسى الليلة السابعة والعشرين حيث بدأت صلاة القيام مع الإمام في الدور العلوي وأخذت أتأمل هتان المطر الذي بدأ خفيفاً رائعاً يعانق إشعاعات الأضواء المنبعثة هنا وهناك في كل زاوية من البيت الحرام,, كنت أقرأ وأتأمل,, ثم وقبل النهاية هبطت إلى الأسفل خارج مبنى الحرم تفاديا لشدة الزحام والذي يبدو أنه سيعتقلني في الدور العلوي حتى إشراقة اليوم التالي.
وجدت نفسي هناك في المنطقة المحيطة مباشرة بالحرم حيث لم تكن تحوي سوى عدد قليل بسبب ازدياد هطول المطر,, أكملت الصلاة في الخارج واستمر الإمام في القراءة وأنا أتابعه حرفاً حرفاً بقدر الإمكان,, حتى بدأت الركعات الأخيرة ثم الوتر، وقد بدأ هطول المطر يزداد كثافة شيئاً فشيئاً ثم بدأ الدعاء ورفع المصلون أيديهم وكان صوت الإمام يزداد قوة وحماساً ويشتد وضوح النبرة الإيمانية النورانية فيه,, عندها رفعت رأسي لأرى ميازيب الحرم تتدفق سيلا,, مما أذهلني فللمرة الأولى في حياتي أرى ذلك المشهد الذي يخطف الروح والقلب ويغمر النفس إحساساً بعظمة الخالق,, ذلك الشعور الدافىء الذي يملأ القلب مع توالي ركعات القيام وهطول الدعوات.
ليس أجمل من الصلاة والدعاء في هذه الأيام المباركة وليس أروع منها أيضاً حين تساعدك الظروف، فتؤديها في البيت الحرام,, لكن ذلك ليس أمرا حتمياً ضروريا، إذ نلاحظ في السنوات الأخيرة إصرار الكثيرين على قضاء بضعة أيام أو الشهر بأكمله في مكة لتتحول مكة في هذا الشهر إلى حج آخر!.
ومن قال إن العبادة لا تقبل إلا في مكة بجوار البيت الحرام,, يؤكد ذلك ماصرح به أحد مشايخنا الأفاضل في معرض حديثه عن هذا الأمر حيث يقول: إنه ليس ثمة ما يدعو إلى قضاء أيام طويلة من رمضان في مكة المكرمة للعبادة,, تكفيك للعمرة يوم أو يومان أو ثلاثة على الأكثر ثم غادر إلى مدينتك لتمنح فرصة للآخرين وخصوصا أولئك القادمين من خارج المملكة,, وإذا كان لديك مال إضافي فليكن ذلك في الإكثار من الصدقة التي ربما يضاعف لك الأجر من خلالها,, إنك بذلك تساهم في تخفيف العبء عن هذه المنطقة وتمنح إخوة آخرين الفرصة لقضاء فريضة العمرة التي لم ينالوها إلا بكثير من المشقة والتعب.
|
|
|