* نشرت صحيفة واحدة قبل عدة ايام، خبرا (تعاملت معه على أنه طريف),,! وذلك في خضم ما تنشره الصحافة اليومية من اخبار في معظمها تخلو من الطرافة، لأنها تتناول ما يغم النفوس ويكدر الخواطر من ألوان الظلم والعدوان، والقتل والدمار، واراقة الدماء البريئة هنا وهناك، وهي اخبار عادة ماتحتل الصفحات الاولى، وتأخذ المانشتات الرئيسة، وتصفع عيون القراء صباح مساء.
* والخبر الطريف، يتعلق بقضية طريفة على رأي الصحيفة ناشرة الخبر وفحواه: ان رجل أعمال مليونيرا سعوديا، سلم لمغسلة في مدينة جدة في ساعة متأخرة من احدى الليالي، ملابس له طلب غسلها وكيها، وفي الوقت المحدد بعد ساعة جاء المليونير فلم يجد ملابسه! ووجد بدلا عنها اخرى لا تخصه، لأن عامل المغسلة اخطأ وسلم ملابس المليونير الى شخص آخر، عندها,, استشاط الرجل غضبا، وسارع من توه الى قسم الشرطة حيث تقدم ببلاغ شكوى مشفوعا بمستند من خياط الملابس، يثبت قيمة الملابس المفقودة في المغسلة,, بعد ذلك اقر الضابط المسؤول عن التحقيق في الواقعة بضرورة التعويض، فما كان امام صاحب المغسلة وعامله المهمل إلا دفع المبلغ المحدد,,!
* بعد ان قرأت هذا الخبر الذي يراه البعض طريفا,, رددت في حبور وغبطة: شكرا لك ايها المليونير السعودي,, شكرا لك ايها المليونير السعودي، ومرجعيتي في هذا الموقف من هذه القضية عدة امور اراها مهمة، حتى لو خالفت البعض وخالفني هذا البعض لكني اعتبرها مهمة:
اولا: هي ليست قضية نادرة بحيث انها لا تحدث إلا في أوقات متباعدة، فهي بالتالي ليست طريفة، وليست غريبة، اما الطريف والغريب، فهو طريقة تناولنا لها ولما يماثلها من قضايا حقوقية عامة او خاصة، والتعامل الاعلامي مع هذه القضية لم يخرج عن نظرة المجتمع التي تسترخص وتتهاون في مثل هذه المسائل، حتى اصبح تناولها شيئا غير مألوف.
ثانيا: المليونير السعودي الذي طالب بحق خاص مهما كان هذا الحق متواضعا او تافها او صغيرا بالنسبة الى ثروته كما يرى البعض هو في الحقيقة دافع عن حق عام بطريق غير مباشر، فثراؤه ومشاغله لم يمنعاه من صرف وقت وجهد اضافيين للبحث عن حق ضاع بسبب إهمال وتسيب، وهذه في حد ذاتها قضية صارخة تعلن عن نفسها في كل دقيقة وفي كل ثانية، ويذهب ضحية لها آلاف الناس من اولئك الذين يتبسطون في التعامل مع هضم حقوقهم سواء كانت مادية او معنوية، وهذا التعامل السلبي مع قضايا كهذه، اكثر من الذين يستمرئون العدوان على الحق الخاص، ومثل هذه العناصر تملك من وسائل واسلحة الخبث ما يدفع عنها طائلة المحاسبة والمطالبة في كثير من الأحيان، ففي هذه المعادلة العجيبة، هناك: غني ومقتدر ومتسامح وكبير وكريم,, وهناك فقير وضعيف وصغير وغريب عن البلد,, وبين الطرفين تأتي قضية التسامح وغض النظر والسكوت، ويبرز دور حزب (لا يراك الله إلا محسنا),, وهذا في الواقع، امتهان في الدعوة للعفو والتسامح ينبغي ترشيده، فلا يصرف إلا لمن يستحقه فعلا، من اهل الخلق والمعاملة الحسنة، الذين عرفوا بذلك في الغالب، وبذلك نحد من هجمة الضعيف الفقير الصغير الغريب صاحب الخلق السيئ، للاستغلال والتغفيل والعدوان الصريح,, والمليونير كان شجاعا وهو يضع النقاط على الحروف، ويطالب بحق ضائع من مرفق خدمي تهاون واهمل وفرط، او تعمد العدوان، متكئا على رصيد من تجارب وخبرات سابقة في التعامل مع مثل هذا مع الآخرين الذين يتهاونون ويهملون ويفرطون هم ايضا، ولكن في حقوقهم الخاصة، وهذا المليونير يجب ان يشكر مني ومن الكل، لأنه لم يطالب ويدافع عن حقوقه هو فقط، وإنما اعطى درسا يمكن ان يحتذى من غيره، فيدفع المتضررين الى اخذ مواقف ايجابية مع الطرف الآخر، ويكون رادعا لمثل هذه المغسلة وعاملها المقصر,, فالمليونير دافع عن حق عام ينتهك باستمرار، ثم يضيع وسط ركام من سلبيتنا الصارخة.
ثالثا: وهذه القضية هي في الواقع صورة مبسطة لواقع مؤلم يمثل الفساد الذي ينخر في المجتمع، فإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعلمنا ان الدين في جوهره هو المعاملة، وعلى هذا يمكن القياس بأن من يعامل الناس معاملة حسنة فهو في الدين، وان من يعامل الناس معاملة سيئة فهو ليس من الدين في شيء، والقاعدة في ذلك هي المعاملة بالمثل، وتبادل المنافع مشروع حتى في المشاعر,, يقول صلى الله عليه وسلم:
لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ,, وهذا نهج سليم في فرز السلوك، وبيان حال المحسن وحال المسيء، حتى يكال لكل بحسب حاله، فهذه هي العدالة، والا فسد الناس، يقول علي بن ابي طالب رضي الله عنه: عاملوا الاحرار بالكرامة المحضة، والأوساط بالرغبة والرهبة، والسفلة بالهوان، ويقول ايضا رضي الله عنه: لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان، وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة، وفي الحرص على المحاسبة واليقظة تدريب للأمة على الاحترام والالتزام والاتقان ولزوم العدل في المعاملة، فالدين المعاملة كما قلنا، والانتقاص من حق الآخر مهما كان الامر، يخل بموازين العدالة في العلاقات الفردية والاجتماعية.
رابعا: ليس عدلا ان نصف موقف المليونير السعودي بأنه موقف طريف، وكأننا نستكثر منه المطالبة بحق مشروع، لكونه ثريا وغنيا، فنحن بذلك نبرر الممارسة غير المشروعة للشارع عندما يتدخل لضياع حق خاص، وتمييع قضية عاجلة، بنسل المخطئ من جرمه كما تنسل الشعرة من العجين، واقعنا يقول ذلك، والممارسة التي نعرفها تشهد هذا، فأنت تشتري سيارة من وكيل هو ملتزم اصلا بخلوها من العيوب، وبصيانتها، وبتوفير قطع غيارها، لكن لو حدث لها شيء وتأتي تطلب حقك، لجوبهت بموانع وبسدود من المتبرعين لثنيك وصرفك وهضم حقك,, لا يراك الله إلا محسنا,,!!
* وعندما تتعرض في طريق عام لصدم من سائق متهور، فتتلف سيارتك، أو يصيبك الاذى، تفاجأ بجمهرة من حزب: (لا يراك الله إلا محسنا)، فعلى أيديهم يضيع حقك,, ليس هذا فحسب، بل يمنح المسيء فرصة جديدة للإساءة والخطأ مع شخص آخر,, وهكذا دواليك.
* المنتهك لحقوق الآخرين يسيء المعاملة ويلحق الضرر بغيره، ومن يساعده بمحاولة تبرير اساءته وطلب العفو عنه، الذي هو في كثير من الاحيان في غير محله، اكثر اساءة وضررا منه، قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: لا مداراة للخلق السيئ القبيح، كالشجرة المرة، لو طليت بالعسل لم تثمر إلا مرا، او كذنب كلب لو ادخلته القالب سنين لعاد الى اعوجاجه، وقال المتنبي:
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له إذ لم يكن في فعله والخلائق |
وقال أحمد شوقي:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا |
خامسا: ان مثل هذا وذاك من الاذى الذي يلحق بالإنسان، ونحن مأمورون في ديننا بكف الاذى عن بعضنا في الاسلام، وحتى عن غيرنا من باقي الأمم، وعن سائر المخلوقات، فكيف اذا تعلق الامر بالفرد والجماعة الاسلامية، ان ما يلحق الواحد من اذى يلحق الجماعة ويطولها، ومساعدة المؤذي والمخطئ على الافلات مما اقترفت يداه في حق الآخر، اذى اكبر موجه الى الكل بالضرورة, يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (حسن الخلق، طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)، ومن صور حسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى، وقف الأذى، وانصاف المظلوم من الظالم، وتعويد المجتمع على التربية الصحيحة في هذا, قال مونتسكيو: الاجحاف بحق الفرد هو تهديد بظلم المجموع، وما نمارسه نحن في التعامل مع ما نظن انها مسائل بسيطة وصغيرة (يجب) العفو فيها، هو إجحاف للفرد، وظلم للمجموع، وقديما قال الشاعر:
لا تحقرن صغيرا في مخاصمة إن البعوضة تدمي مقلة الأسد |
* لو ان كلاً منا لم يتهاون في حق من حقوقه، لما وجدنا فينا من يسيء ويخطئ، ثم يحتمي وراء ظهر حزب: (لا يراك الله إلا محسنا),,!
* اما الاحسان، فله أبواب ومصارف كثيرة، ليس بينها التشجيع على الأذى والظلم والاساءة، وأكل اموال الناس بالباطل,, هذا بكل تأكيد.