Thursday 16th December, 1999 G No. 9940جريدة الجزيرة الخميس 8 ,رمضان 1420 العدد 9940


في توصيف المثقف والثقافة (3)
المثقف فاعل فكري ، معالج للممكن ، عميق وعارف بالواقع!
ماجد الحجيلان

إذا كان على حرب قد فتح النار على المثقف كما يعترف بذلك في كتابه الموسوم (نقد المثقف) فإن كثيرين قد شاركوه في تهشيم ما تبقى من صورة جميلة للمثقف ومهمته الطليعية من مثل جورج طرابيشي، وفهمي جدعان، ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم كثير.
هذه المراجعة الدورية لمفهوم المثقف ومكانة الثقافة من جهة، والهجوم الكاسح من جهة أخرى أديا إلى إعادة النظر في أهميته المزعومة، وشككا في كونه مالك الحقيقة وعشيق الحرية .
وملخص ما يقوله حرب أن المثقف هجر دوره النقدي إلى الاشتغال بحراسة الأفكار ويرى أن هذا هو مقتل الفكرة، لأنه يقف حائلاً دون تجديدها، فالأفكار ليست شعارات ، بل هي أدوات لفهم الحدث.
والمثقف التنويري العقلاني التحرري عنده هو الذي يقيم علاقة نقدية مع ذاته وفكره ودعا إلى إعادة النظر في الدور الطليعي الذي يمارس فيه المثقف دور الوصاية على القيم العامة والمشتركة المتعلقة بالحرية، والحقيقة، والعدل، والمساواة، لأن المثقف يصنع بنفسه آليات عجزه، ولذا فقد قال بنهاية المثقف وإذا كان من بديل فإنه يطرح فكرة المثقف الوسيط لأنه عميل لا غنى عنه بين المعرفة والسلطة، وبين المعنى والحقيقة.
والمطالعة المتفحصة لهذه الأطروحات التي تعالج دور المثقف تبين أنها توصيف دقيق لحالة المثقف، وأنها استقراء عادل لعلته الثقافية المزمنة، ذلك أن تشخيص العلل التي عانى منها المثقف كان محتاجاً إلى نقده، وإلى الخروج عليه، وإلا كسر النموذج الجامد الذي صنعه لنفسه منذ فترة طويلة، ليتشرنق فيه، ويمارس مهمته النمطية في انتاج الأفكار وإعادة استهلاكها داخل محيطه الضيق.
ويمكن من خلال هذه الآراء السابقة في نقد المثقف أن نكتشف بمفاجأة كبيرة وذهول شديد أن المثقف رمى بيوتاً كثيرة بالحجارة، متناسياً بيته الزجاجي الواهي، الذي لم يجرؤ أحد على اختبار مدى صلابته فترة طويلة، حتى تناثر بفعل التجربة وعوامل الزمن، واتضح مدى رقته وضعفه.
قد لا يتفق كثير من الباحثين مع ما يطرحه علي حرب مثلا في نقد المثقف، فدعوته إلى أن يمارس النقد من داخل كل قطاع وألا يقتصر على النخب المثقفة هي في الواقع نظرة تبدو مثالية، إذ كيف يحكم لفاقد الأهلية النقدية بامتلاك أدواتها واحسان توظيفها؟ وكيف يمكن أن ينسحب هذا الحكم على (كل قطاع) وبهذا تغيب الملامح وتتشتت الوظائف، وتنتفي المعايير والمقاييس؟.
ربما يكون علي حرب قد وقع في عيب آخر من عيوب المثقف حيث نقل الخبرات الجيدة، دون تبصر بالواقع المستقبل لهذه الخبرات، على كل فإن الجميع يتفقون على أهمية التوجه إلى المثقف بالنقد والسؤال، وعلى وجوب الالتفاف إلى شخصيته وأخذها بالاكتشاف والسبر والتحليل.
* المهام الثقافية:
مهمة المثقف ليست النقد وحده، ولا عليه أن يوجه المجتمع ويكون مسؤولاً عن زلاته وأخطائه، إنه مسؤول عن زلاته الشخصية فقط، ومسؤول عن أعماله وعن تقصيره في أدائها، وعن معارفه، وعن طاقته المهدرة.
هنا يمكن لملمة الموضوع من جوانبه، وتحديد المسؤوليات، وهيكلة الأهداف والمهام، فمشاركة المثقف في صنع الحدث وفي بلورته هي مهمة جليلة يمكن أن يضطلع بها، ومن خلال التجربة يتبين ذلك أكثر.
لقد بدأ المثقفون الفاعلون معاركهم المجدية في كل زمان ومكان بالعمل وحده، لم يكتفوا بأن يكونوا نقاداً فقط، ولم تكن مسؤوليتهم هي معرفة الخطأ فحسب، بل كانوا يتولون إصلاحه بأيديهم,, إن النقد وحده يضرّ بالمثقف أيضاً,,! كان في داخل كل مثقف فاعل مصلح، وإن لم يمتزج دم الإصلاحي بالمثقف فلا جدوى من الثقافة، ولامن المثقفين، وإن لم يشارك المثقف في تغيير الواقع بالرأي، والقلم، واللسان، واليد؛ فهو أشبه بالشامت الذي هو مشارك في توهين الهمم، وتثبيط العزائم، ويمكن تصنيفه في خندق الضدّ, التوازن مهم في عمل المثقف، عليه أن يكون عميقاً، فهو ليس بالسياسي الثائر الذي مهمته المصادمة، وليس بالداعية الواعظ الذي مهمته التأثير على العواطف، بل هو فاعل فكري، المثقف بالفعل وسيط معرفي، يأخذ بأسباب التقدم الأخرى ويعيد انتاجها لما يناسب مجتمعه، إنه مثقل بالخبرات التي يستوردها بغير استلاب لأية جهة كانت ولكنه يعيد تشكيلها وصهرها وفق معرفة جيدة بالواقع، إنه صانع أفكار,, ومولّد خطط وطرائق جديدة,, وآليات أجدى للتفكير وللعمل وللانتاج.
المثقف الفاعل لا تكون فلسفته لسانية فقط, بالمعنى اللغوي بحيث تتجاوز فلسفته حد الابهار الثقافي والنجومية المعرفية؛ إلى وضع أساس متين لنقل القراءات والمعارف والخبرات والتجارب، هذا الأساس هو الدراية بالواقع الذي يمكن نقل الخبرات إليه، تجنباً للفشل الظاهر الآن من نقل الكثير من التجارب المستهلكة، التي قد تنجح في ميدان، وتفشل في آخر حسب الظروف المختلفة التي يجب مراعاتها.
إذن فالمثقف ليس وصياً على أحد، إنه المنطلق من الواقع ومن الممكن، هو ناقل الخبرات والأفكار بأسلوب ممكن، إنه معالج للممكن، وفق ما يتصوره من امكانيات المجتمع، وفي حدود الزمان والمكان المناسبين.
ومن هنا يكتسب المثقف شرعيته لدى كل الشرائع من كونه ناقداً رفيقاً ومحللاً دقيقاً، فهو لا يعارض ولا يوافق الكيانات وفق قاعدة مع أو ضد، بل هو مكتف، بتفعيل المعرفة وترجمتها إلى آليات عملية، فهو إذن فاعل فكري .
على أن هذه الورقة لا تزعم امكانية حسم الجدل الدائر حول مفهوم الثقافة ودور المثقف، فالاسئلة مازالت تطرح، والاستفهامات آخذة في التعاظم تبعاً لمتغيرات كثيرة وآراء أكثر، ولذا فإن الكثيرين يكتفون بزرع الاشكالات وتركها للزمن، فهو وحده كفيل بالاجابة.
إن الصورة الضبابية لوضع المثقف والثقافة أدت إلى هذه الآراء وانتهت إلى تجنب الخوض في الجدل الدائر حول هذا الموضوع، على نحو ما يقرره عبدالرحمن منيف في كتابة (بين الثقافة والسياسة): صورة المثقف اليوم مرتبكة، لأن صورة المهمة ذاتها التي يتصدى لها مرتبكة، أي غير محددة، وبالتالي غير واضحة؛ وهذا ما يثير الشكوك لديه ولدى الآخرين، وبالتالي يخلق الالتباس حول دوره، وحول المهمات التي يمكن أن يقوم بها .
مرة أخرى يمكن القول: إن هناك خطأ في المفهوم والتطبيق لمادة الثقافة، ولاشك أن النقد الذي يوجه للمثقف أولاً هو الحل، ويجب أن يكون النداء الأول حالياً إلى علاج المثقف من الاحساس بالفوقية والنخبوية,, لا ينكر أحد من الباحثين على المثقف حقه في اليأس والقنوط، فمظاهر هذين مزروعة في كل زاوية عربية، كما لاينكرون عليه حقه في ممارسة النقد والتعالي، والوعظ أحياناً ولكنهم ينكرون عليه الا يشارك في تفعيل معرفته، وفي محاولة التعديل مرة، ومرتين، وثلاثاً، فاليأس موت، ولا شك أن الموت هزيمة كبرى، يرون أن المثقف يجب ألا يرضى بها، أو يستسلم لها.
وإذن هي دعوة لأن يكفّ المثقف عن رسم الخرائط للآمال المستقبلية، وأن يكف عن حشو رأسه بالأوهام، أوهان النخبة الخطيرة، وليبدأ في العمل، متسائلاً أين الخطأ؟,, وما الذي ينبغي فعله؟,, ومن أين البداية؟.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved