Thursday 16th December, 1999 G No. 9940جريدة الجزيرة الخميس 8 ,رمضان 1420 العدد 9940


من الأدب الألماني
كحلم,, بغيض
للكاتب الألماني: هينريك بول Henrich Boll

*ترجمة: حصة إبراهيم العمار
كنا تلك الليلة قد دعونا عائلة الزومبن لتناول العشاء وهم احقاقاً للحق غاية في اللطف، تعرفنا بهم عن طريق والد زوجتي ذاك الذي ما فتئ منذ تزوجت ابنته يعرفنا بأناس لهم نفوذ فأفيد في مجال العمل منهم ولم يكن السيد زومبن ليشذ عن تلك القاعدة فهو رئيس لجنة للتعاقد في مشاريع الإسكان الضخمة فيما كان عملي لحسن الطالع في مجال حفريات المباني.
أعصابي ليلتها كانت مشدودة على أن بعلتي بيرثا هدأت من روعي: إن مجرد حضوره الليلة قالت لهو حدث واعد بحد ذاته حاول فقط أن تمحور الحديث في مسألة العقد فغداً كما تعلم هو موعد تقديم العروض!
وصوبت نظري عبر شبكة ستائر باب الزجاج الأمامي منتظراً قدوم الضيف المرتقب ثم اشعلت لفافة رميت بعقبها بعد وهلة على الأرض فدست بقدمي عليه قبل أن أدفع به تحت حصيرة الأرجل,, واتجهت بعد ذلك الى دورة المياه فاتخذت لي خلف نافذتها موقعاً رحت من خلاله أفكر في السبب الذي دفع بالسيد زومبن إلى قبول دعوتنا لا يمكن أن تكون لهفته على تناول العشاء معنا الباعث لذلك,, كما وأن كوني أحد أصحاب عروض الغد ستسبب له ذات الحرج المضطرم في جوانحي فياله من موقف لا أحسد عليه قلت في نفسي وانساب تفكيري في ردهات عقد الغد كان كبيراً غاية وإن فزت به فلسوف أحصد عشرين ألف مارك أنا في أشد الحاجة إليها, كانت زوجتي بيرثا قد أعدت لي ملابس السهرة, معطف داكن اللون وبنطال أخف لوناً بدرجة وياقة رسمية كان ذلك ما تعلمته من اسرتها، وكذا كانت بارعة في كيفية التعامل مع الزوار,, ماذا يقدم لهم ومتى وكيفية صنع الحلويات، ان من نعم المولى على المرء ان يحظى بزوجة كهذه على أني استشعرت أن بيرثا كانت متوترة كذلك إذ انها حين وضعت على منكبي يديها، مسّت اصابعها عنقي وكانت باردة,, ندية نوعاً.
سيكون كل شيء على ما يرام قالت ولسوف تظفر بالعقد بإذن الله!
يا إلهي قلت أقسم أني في حاجة ماسة لهذا المبلغ.
وتكدر محياها بسحب العتب:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم لا تدخل ذلك في المسائل الدنيوية.
وتوقفت سيارة داكنة أمام بيتنا لم أتبين نوعها على أنها بدت ايطالية الصنع.
هون عليك همست بيرثا دعه يقرع الجرس ثم انتظر ثانيتين قبل أن تفتح لهم وئيد الخطى.
وتأملت السيد زومبن وهو يصعد الدرجات الموصلة الى الباب، كان طويلاً رشيقاً بعوارض قد وخطها المشيب,, ذاك النوع الذي كان الطراز المفضل للفتيات منذ خمسين عاماً, أما السيدة زومبن ضمن تلك الفئة الطويلة السمراء التي تذكرني بالليمون، واستشففت من الانطباع المرتسم على وجه الرجل ان الدعوة كانت مصدر ملل رهيب لهما كذلك!
ودق الجرس فانتظرت ثانية وأخرى قبل أن أتهادى على مهل لأفتح لهما.
مرحباً قلت كم نحن سعداء بحضوركما!
وتجولنا اثر ذلك في ارجاء بيتنا الذي رغبا في رؤيته,,أما بيرثا فلزمت المطبخ عاصرة بعض المايونيز على عدد من المقبلات التي صنعتها ببراعة على هيئات مختلفة.
وهنأنا الضيوف على جمال بيتنا وأناقته ثم تبادلا ابتسامة عريضة حينما وقع بصرهما على درج مكتبي الكبير,, ذلك الذي بدا لي أيضاً ضخماً ساعتها وأبدى السيد زومبن اعجابه ببعض التحف والهدايا التي ازدان البيت بها وحين عدنا من جولتنا الاستطلاعية كانت بيرثا قد وضعت الطعام على المائدة بشكل طبيعي بديع وتناولناه في جو مريح بهيج, ثم تحدثنا عن الأفلام والكتب والانتخابات الراهنة وأبدى السيد زومبن اعجابه بتشكيلة الأجبان أما زوجته فامتدحت القهوة والفطائر, وعرجنا على صور زفافنا فاستعرضناها معهما، على الساحل البريطاني وصور الحمير الاسبانية ومشاهد حديثة للدار البيضاء.
وتناولنا شيئاً من العصير بعد ذلك وعندما قمت لاحضار صورنا أيام الخطوبة أومأت بيرثا لي فعدلت عن ذلك ولدقيقتين ران صمت عميق,, اذ اننا كنا قد استنفدنا كل المواضيع المطروحة على ساحة النقاش، وفكرنا جميعاً بمسألة العقد إذ انه لم يتبق سواه، فكرت في العشرين ألفاً مجدداً فيما نظر السيد زومبن إلى ساعته وقال علينا لسوء الحظ أن نذهب فقد ناهزت الساعة العاشرة، كانت أمسية ماتعة حقاً، وعلقت زوجته قائلة: سررنا بزيارتكم ونتمنى ان تردوا الزيارة قريباً.
يسعدنا ذلك قالت زوجتي ثم مضينا ندردش ثانية لنصف دقيقة أخرى ونحن في فلك العقد لما نزل ندور وشعرت بأن السيد زومبن كان ينتظر مبادرتي بالانتحاء به جانباً والدخول في صلب الموضوع بيد أني لم أفعل، وودعناهما ثم فتحت للسيدة باب السيارة، وعندما عدت قالت زوجتي بلطف: ما بالك قد أغفلت مسألة العقد؟!
وفي حيرة أجبت: عدمت طريقة أفتح بها الموضوع.
اسمع! قالت بصوت هادئ كان بإمكانك استجلاب أي ذريعة لتنتحي به في مكتبك جانباً فتناقشان ذلك، لقد رأيت مقدار اهتمامه بالفن وكان بامكانك ان تقول له: لدي تحفة تعود إلى القرن الثامن عشر إنها في غرفة المكتب، دعني أرِك إياها وعندها,.
ولم أقل شيئاً أما هي فأطلقت تنهيدة حرى ثم ربطت مئزر المطبخ فتبعتها إليه ووضعنا بقية المقبلات في الثلاجة ثم زحفت على الأرض باحثاً عن غطاء علبة المايونيز ، وأعدت المشروبات إلى البراد وأحصيت بعدها المتبقي من لفافات التبغ، ما دخن غير واحدة، وأفرغت منفضة السجائر ثم أكلت قطعة حلوى وفتحت غطاء الابريق بحثاً عن شيء من القهوة وعندما عدت إلى المطبخ ثانية كانت بيرثا تقف هناك ممسكة بمفاتيح السيارة.
ما الأمر؟ سألتها.
علينا بطبيعة الحال ان نذهب إلى هناك قالت:
إلى أين؟
إلى منزل عائلة الزومبن بالطبع! ماذا تظن!
تجاوزت الساعة العاشرة والنصف!
لا يهم سنذهب حتى لو كان الوقت منتصف الليل تتعلق المسألة بعشرين ألف مارك يا عزيزي، واتجهت إلى الحمام فمسحت الأحمر عن شفتيها قبل أن تعيد طلاءهما، وتجدد وضع بقية المساحيق على وجهها.
كانت المقاهي مضاءة في وسط المدينة والناس في صخب بعد إذ افترشوا المقاعد الخارجية فأما الأنوار اللامعة لأعمدة الشوارع فكانت تنعكس على آنية البوظة والثلج الموضوعة على الطاولات خارجاً وشجعتني بيرثا بابتسامة حينما وصلنا منزل الزومبن على أنها فضّلت الانتظار في السيارة، وضغطت على الجرس فهالتني السرعة التي فتح بها الباب لم يدع وجه السيدة زومبن أي أثر للدهشة وهي تراني ماثلاً أمامها وكانت ترتدي رداء منزلياً طرزته أزهار صفراء فذكرتني بالليمون أكثر من أي وقت مضى:
استميحك عذراً قلت أرغب في رؤية السيد زومبن !
لقد خرج ثانية ولسوف يعود بعد نصف ساعة.
في الردهة لمحت الكثير من التماثيل الثمينة:
حسناً قلت أعود إذاً بعد نصف ساعة ان سمحت.
كانت بيرثا قد ابتاعت صحيفة مسائية انهمكت بين سحب الدخان في قراءتها وعندما جلست بجانبها قالت:
كان بامكانك تسوية الأمر معها!
وكيف عرفت ان زوجها كان خارج المنزل؟
لأني أعرف انه يلعب الشطرنج بنادي جافل ديدنه ليلة الخميس من كل أسبوع.
كان بامكانك اطلاعي على ذلك آنفاً قلت في حسرة.
أرجوك حاول أن تفهم قالت بيرثا ثانية الجريدة أرغب في مساعدتك أريد أن تكتشف بنفسك كيفية التعامل مع هذه الأشياء كان بامكاننا الاتصال بوالدي ليتولى انجاز كل شيء في غمضة عين على أني أريدك ان تحصل على العقد بنفسك.
حسناً قلت فماذا نفعل هل ننتظر عودته بعد نصف ساعة أم نذهب فنسوي الأمر معها عاجلاً؟
بل اني أرى أن من الأفضل أن نصعد الى هناك على الفور ردت بيرثا ونزلنا من السيارة فاتجهنا إلى المصعد سوياً:
تقوم الحياة قالت بيرثا على سلسلة من التنازلات والحلول الوسط ولم تندهش السيدة زومبن حينما رأتنا بل حيتنا وتقدمنا إلى مكتب زوجها ثم قدمت لنا شراباً وقبل أن أدخل في صلب موضوع العقد دفعت إليّ بملف أصفر كتب عليه مشروع الاسكان الخاص بمنطقة شجرة التّنوب ,, ونظرت في دهشة إلى زوجتي والسيدة زومبن فإذا بهما تبتسمان ودفعت إليّ بملف آخر افتحه قالت السيدة زومبن وفتحته فوجدت بداخله ملفاً آخر وردي اللون وعليه قرأت مشروع الاسكان الخاص بمنطقة شجر التّنوب أعمال الحفر ، وفتحته فرأيت المبلغ الذي تقدمت به وقد تصدر جميع العروض وبجانبه كتب أحدهم بقلم أحمر أقل العروض .
وشعرت بسعادة جمة تتدفق مع نبض شراييني ولمع في خاطري مبلغ العشرين ألفاً.
والله اني لا أصدق وهذه المرة نسيت بيرثا أن تؤنبني على ذلك واغلقت الملف في هدوء.
فلنحتفل بهذه المناسبة! قالت السيدة زومبن قبل أن تدير كؤوس العصير مجدداً ونهضت فقلت:
قد أبدو فظاً لكني آمل ان تقدري رغبتنا في العودة إلى المنزل الآن!
أفهم ذلك تماماً ردت السيدة زوبين على أن هناك أمراً صغيراً ينبغي إنهاؤه ،أخذت الملف فقلبت أوراقه ثم قالت: يتضمن عرضك مبلغاً أقل بثلاثين بفنج للمتر المربع عن صاحب العرض التالي لك وأقترح ان ترفع مبلغ عرضك بمبلغ خمسة عشر، وبذا ستظل الأقل سعراً وستتمكن من توفير أربعة آلاف وخمسمائة فرنك هيا بادر الى ذلك وأخرجت بيرثا من حقيبة يدها قلماً دفعت به إليَّ على أن الطوفان بداخلي أعاق ذلك! ودفعت بالملف الى بيرثا ثم راقبتها وهي تغير المبلغ بخط ثابت وتعيد الملف إلى السيدة زومبن والتي ما ان تلقفته حتى قالت لي:
اخرج الآن دفتر الشيكات وأكتب لي شيكاً بمبلغ ثلاثة آلاف فرنك ويجب ان يكون قابلاً للصرف ومجيراً من قبلك!
كنت المعني بذلك لكن بيرثا سارعت باخراج دفتر شيكاتنا وكتبت لها ما أرادت!
ليس لدينا ما يغطي ذلك المبلغ قلت بصوت منخفض!
عندما تصرف الدفعة الأولى سيكون هناك ما يغطيه فلا تقلق!
قالت السيدة زومبن !
ربما كنت قد فشلت في استيعاب ما كان يحدث آنذاك فعندما هبط المصعد بنا عبرت بيرثا عن غامر سعادتها أما أنا فلم أنبس ببنت شفة!
واختارت بيرثا طريقاً مغايراً للعودة فمررنا بمناطق سكنية هادئة ورأيت الشرفات وقد أشرقت فيها الأنوار وحبس بها كثير من الناس يحتسون شراباً,, كان ليلة صيف صافية سهر فيها القمر وتلألأت الأنجم.
أظن ان الشيك كان للسيد زومبن قلت في هدوء ، وبنفس الرقة أجابت: بالطبع له!
وشرعت أتأمل أصابعها السمراء القصيرة على المقود,, واثقة هادئة كانت فجالت بفكري خواطر غريبة شتى,, إنها ذات الأصابع التي توقع الشيكات وتعصر المايونيز على أني ما احسست بشديد ألفة تجاهها!
ذاك المساء ما ساعدت بيرنا في وضع السيارة بالمرآب، ولا في غسل الصحون بل صببت شراباً صعدت به إلى مكتبي وجلست على المنضدة التي بدت حتى لي,, غاية في الضخامة,, كنت أحاول استشراف كنه شيء ما,, شيء غامض مجهول,, واتجهت إلى غرفة النوم وهناك ألقيت نظرة على احدى التحف النفسية على أني لم أدرك كنه ذلك الشيء.
وقطع رنين الهاتف تيار أفكاري وما أن رفعت السماعة حتى فوجئت بالسيد زومبن .
لقد وقعت زوجتك في خطأ طفيف فقد رفعت السعر الى خمسة وعشرين بدلاً من خمسة عشر.
وفكرت لثانية ثم أجبته:
لم يكن ذلك خطأ فقد طلبت أنا منها ذلك.
وبعد صمت دام ثانيتين قال ضاحكاً:
إذا فقد تباحثتما في كافة الاحتمالات المطروحة.
نعم أجبته.
حسناً فأعدّ إذاً شيكاً آخر بألف فرنك!
بل بخمسمائة قلت وفكرت انه كحلم سيىء,, ككابوس أهل ذاك هو: ثماثمائة جاءني صوته وقلت بدوري ضاحكاً ستمائه! وكنت أعلم دون سابق تجربة أنه سيقول سبعمائة وخمسين وعندما قال ذلك قلت: نعم ووضعت السماعة.
لم تكن الساعة قد ناهزت منتصف الليل عندما ركبت السيارة لأعطي السيد زومبن الشيك المطلوب كان وحيداً حينما وصلت وضحك وأنا أناوله الشيك المطوي، وعندما سرت نجاه البيت وتبدأ ادهشني ان بيرثا لم تكن هناك، لم تأت إلي عندما ذهبت إلى غرفة المكتب ولم أرها عندما ذهبت الى الثلاجة لشرب كأس من الحليب البارد وكنت أعلم ما يدور ببالها كانت تقول لنفسها: دعيه يفهم كل شيء بنفسه ويعتمد على ذاته على أني لم أفهم أبداً,, كان استيعاب ذلك كله وراء حدود الخيال!
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved