التعليم هو شرف الإنسان وامتيازه، وهو مناط التكليف، وأساس حمل الأمانة، لذلك فعندما خلق الله الإنسان وجعله خليفة في حمل أمانة السماء إلى الأرض، علمه ومنحه العقل.
ويقول المولى عز وجل في محكم التنزيل وعلم آدم الأسماء كلها وعندما بدأ الوحي بالرسالة المحمدية الخاتمة للكون كانت أولى الكلمات: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ,,ومن هنا كان التعلم ثقيلاً في ميزان الله سبحانه وتعالى من البداية, وما أكثر الأحاديث الشريفة التي تبين لنا فضل العلم والتعلم وتعلي من قدر العلماء والمفكرين وأولي الألباب، وقد تعلم البشر أخيراً ان يجعلوه ثقيلاً في ميزانهم عندما أسموه التعلم، وبدأ العلماء يضعون له النظريات التي تفسره وتصف عملياته ومراحله أو خطواته، وكيفية أو آلية الوصول إليه, وصولاً به إلى مرحلة الابداع والابتكار والتي تجعلهم يدركون بما منحهم الله جل وعلا من عقل دلائل قدرته حيث يقول الله سبحانه وتعالى ويتفكرون في خلق السماوات والأرض .
وبات التعليم يلعب دوراً هاماً ومصيرياً في حياة الشعوب، وفي تحديد مقدراتها ومصيرها بإذن الله, واستطاعت دول أن تحقق نموها الاقتصادي والاجتماعي من خلال التعليم باعتباره أداة فعالة للتحول الاجتماعي ومدخلاً طبيعياً لأية تنمية قومية،فالإنسان هو هدف التنمية ووسيلتها فهو الذي يصنع الحاضر ويرسم معالم المستقبل بإذن الله.
وبدأ موضوع النظام التعليمي والتحديات التي تجابهه يحتل موقعاً مهماً في سلم الأولويات المطروحة على التربويين والمشتغلين بالعلم التربوي، عند دراسة القضايا المتعلقة بمستقبل الوطن ومناقشتها فالنظام التعليمي الشجرة التعليمية منظومة واسعة من العلاقات والاجراءات أبعد وأشمل من كونها أبنية مدرسية ومعلمين وطلابا، حيث ان هذه المنظومة، في واقع الأمر تعنى بالمجتمع الذي ينتمي إليه المواطن، لذا عندما تفكر المجتمعات المتقدمة بأمنها وكفايتها فإن عيونها تتجه الى مؤسساتها التعليمية على أنها البدايات لحلول مشاكلها، وعندما تتبلور طموحاتها فإنها تركز على هذه المؤسسات والتطوير اللازم لها، ومن هنا فإن المؤسسات التعليمية تصبح أداء ووسيلة للتغيير الاجتماعي بمفهومه الشامل, من هذا المنظور فإن القطاع التربوي برمته يشكل أحد الاعمدة الأساسية في تطوير المجتمع، وفي الوقت نفسه أصبح من الضروري تغييره جذرياً، بما يكفل المشاركة الايجابية والفعالة للقطاع في تنمية المجتمع، وذلك ايماناً بأن العلاقة الجدلية بين النظام التعليمي والمجتمع تستلزم تلك النظرة وذلك الفهم.
ولعل ما تقدم يجعلنا نطرح عدداً من الأسئلة التي تحتاج إلى اعمال الفكر في محاولة الاجابة عنها فهل تستطيع حكومات الدول بمفردها أن تهيئ لابنائها التعليم المطلوب في المستقبل؟ هل نظام التعليم قادر على أن يلعب دوراً تنويرياً من خلال المعارف التي يقدمها لطلابه؟ هل المعارف والعلوم المقدمة في مناهج التعليم الحالي مواكبة لحركة التقدم العلمي في الألفية الثالثة؟ ما نوع التعليم الذي نحتاجه والذي يحافظ على هويتنا الاسلامية في ظل عصر العولمة؟
ونبدأ الاجابة على تلك الأسئلة بالقول ان الدلائل والدراسات والابحاث التربوية الجارية الآن في مجال اقتصاديات التعليم وتمويله تشير كلها الى ان حكومات الدول لن تستطيع في المستقبل القريب وفي ظل الانفجار السكاني من ناحية وارتفاع تكاليف التعليم وانحسار الموارد غير المتجددة وزيادة الطلب الاجتماعي على التعليم ولاسيما في مستويات العليا من ناحية اخرى ان تتحمل عبئاً في التعليم فوق عبء التعليم الأساسي الذي يقابل نهاية مرحلة التعليم المتوسط في بعض الدول ومنها المملكة العربية السعودية, لذلك فالدعوة موجهة لكل مفكر وصانع قرار وعالم ولكل معلم وولي أمر قادر ورجال الاعمال والجمعيات الأهلية بأن يساهموا في تهيئة تعليم أكثر جودة لابناء وطنهم فليس ثمة استثمار أكثر عائداً من التعليم الذي ينجينا من مستقبل ذليل في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة ومن ثم فالدعوة إلى الإسهام في تعليم فلذات الأكباد تعليماً يحفظ لهم هويتهم ويضمن لهم عزتهم ومجدهم وتميزهم في عالم المستقبل فنحن في ظل عصر العولمة والكوكبة والذي يحلو للبعض ان يسميه بعصر الكنتكة نحتاج الى تعليم يحفظ لأمتنا الإسلامية هويتها ويخرجها من دائرة التخلف والتبعية الاقتصادية ولنرفع شعار الجودة في كل ممارستنا التعليمية وسوف يظل هذا الأمل حلماً غير واقعي ما لم نسرع الخطى إلى تحقيقه, أما إذا تراخينا فسوف يؤدي ما نحن فيه إلى اهدار طاقاتنا البشرية والاقتصادية ومن ثم التخلف عن ركب التقدم العلمي الرهيب الحادث اليوم,, اننا في عصر تطوير وتكنولوجيا المعلومات والانترنت نحتاج الى تعليم لا يؤدي الى صلب الأفرد في قوالب نمطية موحدة بل تعليم يؤدي الى تنوع البشر وتمايزهم واقتدارهم على تلقي المعلومات وتنظيمها وحسن استخدامها في التفكير المبدع والمبتكر, اننا نريد تعليماً ينتقل بابناء امتنا العربية والإسلامية من عالم الصناعات التقليدية الى عالم صناعات جديدة تعتمد على التكنولوجيا في استنباط طاقات وخامات جديدة، تعليم يعبر بنا بحر العمالة العضلية إلى كوكبة العمالة العقلية ومن أصحاب الياقات البيضاء الى أصحاب البدل الزرقاء والأفرولات ,, ومن التخصص الضيق الى المرونة والمعرفة الشاملة، من المركزية في صنع القرارات الى اللامركزية وتفويض السلطات ومن التنظيم الهرمي الى التنظيم الشبكي ومن الاقتصاد ذي الاتجاه الواحد الى الاقتصاد المتعدد المصادر والمتنوع المنتجات ومن تعليم القرن المنصرم الى تعليم عصر العولمة والكوكبة والكونية والذي سيسوده الوفاق بين القوى الكبرى وتسقط الحدود السياسية وتتآكل الحواجز الثقافية والكوكبة هنا تعني انتقال المتغيرات والأدوات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من مكان لآخر بشكل يؤدي الى توليد عالم واحد، أساسه توحيد المعايير الكونية وهذا المفهوم لا يمكن ان يتم الا بين القوى المتكافئة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبصورة أكثر دقة قوى متكافئة تعليمياً بحيث لا يستطيع طرف فيها فرض التغيير على الطرف الآخر ولا يسير التغيير في اتجاه واحد من القوي الى الضعيف وإلا زادت الدول القوية قوة والدول الضعيفة ضعفاً ، فهل لنا أن نجد ونبحث لنا عن مكان تحت ظل عصر العولمة المقبل؟ ان العرب الذين يتجاوزون حالياً 250 مليوناً وسيصبحون حوالي 700 مليون تقريباً عام 2030 لهم قوة اقتصادية ضخمة بكل المقاييس وهم يشتركون في الدين واللغة والتاريخ الماضي والحاضر والمستقبل الا يمكنهم رصيدهم هذا من امتلاك ناصية أمرهم من خلال تعليم أبنائهم التعليم الذي جعلهم سادة العالم في عصر سابق؟ والله الهادي.
د, عادل السيد الجندي
قسم التربية وعلم النفس كليات البنات بالرياض