تنتشر على شبكات البريد الالكتروني رسائل التهنئة بالشهر الكريم في مثل هذا الوقت من كل عام، مستعينة بمواقع عديدة تعرض مجموعات رائعة من بطاقات التهنئة والمعايدة التي تتاح للزوار لتعديلها والاضافة إليها، ومن ثم ارسالها للشخص الذي يرغبون في تهنئته, وهي خدمة بدأت منذ زمن بعيد وتطورت مع تطور الادوات الرسومية وبرمجياتها العربية والاجنبية مما سمح للكثير بالتعامل معها وطرح ابداعاتهم من خلال بطاقات يرسلونها يمنة ويسرة, والحقيقة ان هذه الظاهرة الالكترونية والتي لا اشك انها ستجد طريقها الى مستخدمي الحاسب الآلي ومتصفحي الشبكة لدينا بالمملكة والعالم العربي كما وصلت إلى كل مكان, اقول ان هذه الظاهرة تدعونا إلى التوقف والتأمل, وهي وقفة لا ينبغي ان تنطوي على شك او ريب بل تثبت من المفيد وغيره.
إن التحية التي نتبادلها ايا كانت مناسبتها لها ارتباط ديني وجذور تقليدية مستمدة من قيمنا التي تتسربل في غالبها بسربال الدين, وأول هذه التحايا تحية الاسلام السلام عليكم ورحمة الله وبعدها التهنئة بدخول الشهر الكريم والاعياد والمناسبات, ما هو الشعور الذي ينتاب احدنا لو قام قريب له بارسال التهنئة بالعيد من خلال بطاقة بريدية؟ أقل احواله الا يشعر بدفء التهنئة كما لو كانت هاتفية على الاقل أو شخصية من خلال زيارة وهو الافضل, فما هو الحال اذن لوكانت البطاقة عبارة عن رسالة الكترونية؟ وإن الرسائل الالكترونية وان اوفت بالغرض بل وتفوقت في نقل المعلومة والخبر بدلا من الهاتف او المقابلة الشخصية فإنها مازالت اقل قدرة في نقل المشاعر الاخوية والاجتماعية الدافئة مهما كان الابداع في تزويق البطاقات وترتيب الكلمات, وبنظرة الى المجتمع الامريكي المعروف بالتفكك الاجتماعي والتقدم التقني في ذات الوقت فإن نجد ان البطاقة البريدية قد حلت محل المكالمة الهاتفية والزيارة الشخصية واصبحت الام تمتدح ابنها لقربه منها بسبب بطاقة تهنئة يرسلها عبر البريد, هل لنا ان نخشى من مصير مثل ذلك المصير تقودنا إليه التقنية؟ أنا لا احسب ان الحال قد وصل بنا إلى ذلك ولا اظن اننا سنصل إليه على الاقل في المستقبل المنظور لسبب بسيط وهو ان مجتمعنا لم يصبح بعد رقميا (أو الكترونيا) Digitized society إلى ذلك الحد (وسيأتي الحديث عن فكرة المجتمع الرقمي في حلقات قادمة إن شاء الله), فالمجتمع الامريكي عرف الحاسب الآلي منذ زمن ليس بالقصير ولذلك فإن المجتمعات الامريكية في المعدل تتكون من جيلين رقميين وجيل مسن في طريقه للانتهاء, وبالتالي فمن المقبول ان نتوقع ان التحية الالكترونية يمكن ان تصبح البديل القادم في هذا المجتمع, وفي هذا السبيل فإن خدمات متعددة تتوفر على الانترنت وبرامج الحاسب الآلي المعنية بالجدولة وادارة الاعمال وتنظيم المهام تتولى الآن جدولة مناسباتك الخاصة ومناسبات احبابك ومن يهمك امرهم في تقويم سنوي, ولا تكتفي هذه البرامج بتذكيرك بذلك بل تتولى ارسال التهنئة نيابة عنك إلى اولئك الاقارب والزملاء والاحباب ورؤساء العمل عند كل مناسبة يمرون بها, ولا يلزم ان تتذكر تلك المواعيد او حتى ان تكون على علم بما يعمله جهازك او برنامج البريد لديك نيابة عنك بل يمكن ان يتولى الحاسب الآلي القيام بدورك الاجتماعي دون حاجة لان تعلم بما يقوم به فالخدمة تهدف اصلا لأن تقوم بعملك دون ان تشغل بالك, وهذه البرامج اصبحت عمادا في حياة المواطن الامريكي الذي يستخدم الحاسب الآلي في بيته وعمله, فالمناسبات والاعياد الخاصة والوطنية كثيرة في المجتمع الامريكي إلى حد التخمة, فهي تتنوع من اعياد ميلاد وزواج الى اعياد وطنية وغيرها من المناسبات الاجتماعية والاعياد الخاصة والعامة التي لا يخلو منها شهر في التقويم الامريكي سوى شهر اغسطس, مقابل هذا الجحيم من الاعياد لم يجد المستخدم الامريكي بدا من الاستسلام لاغراءات الحاسب الآلي والانترنت التي تقول بلسان حالها: لا عليك نحن نتولى العناية بمعارفك وعلاقاتك نيابة عنك وتفرغ انت لاداء عملك! وهنا نجد ان الحاسب الآلي قد حل تماما محل المستخدم الذي يجد في ذلك الراحة وهدوء البال, وبهذا يكون الحاسب الآلي قد انتزع تلك المشاعر تماما من صاحبه الذي لن يكون عليه ان يعتصر ذاكرته لمعرفة من يستحق التهنئة ومتى ولأية مناسبة, وأظن ان الحاسب الآلي بهذه الخدمة يكون قد هتك آخر العلائق الاجتماعية بين الافراد في هذا المجتمع وما شابهه من المجتمعات الرقمية, وهذه نتيجة تردد صداها في كثير من المنتديات المتخصصة في الحاسب الآلي التي اصبحت تدعو الآن إلى تطعيم حياة المواطن الامريكي بنسبة يومية منتظمة من الحياة الواقعية المحسوسة بدلا من العوالم الافتراضية التي غمسه فيها الحاسب الآلي.
جامعة انديانا
khalid*khalidnet.com