هو أبو تمام حبيب بن أبي سلمة الطائي,, ولد كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني بمنطقة منبج بقرية يقال لها جاسم بسوريا وهو شاعر مطبوع لطيف الفطنة دقيق المعاني غواص على ما يستصعب منها ويعسر متناوله على غيره والسليم من شعره النادر شيء لا يتعلق به أحد وله أشياء متوسطة ورديئة رذلة جداً,, وقد ابتدع أبو تمام طرائق في تجديد الشعر تمثلت في هذه الصور الشعرية التي وصل بها الخيال حداً غير مسبوق ويعده البعض امام المجددين في عصره ولهذا انقسم الناس حول شعره فالبعض يفرط في الثناء عليه والبعض يفرط في النفور منه وبسبب غموض صوره قال له بعضهم لماذا تقول ما لا يفهم فأجابه أبو تمام ولماذا لا تفهم ما يقال,, ولهذا يقول أبو الفرج:
وفي عصرنا هذا من يتعصب له فيفرط حتى يفضله على كل سالف وخالف.
وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، وقد روى صاحب الأغاني من أخباره ما يؤيد مكانة أبي تمام في رأي معاصريه فقد ذكر محمد بن عبد الملك الزيات قال: أشعر الناس طرا الذي يقول:
وما أبالي وخير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي ام حقنت دمي |
وقال ابراهيم بن العباس: اشعر أهل زماننا الذي يقول:
مطر أبوك أبو أهلة وائل ملأ البسيطة عدة وعديدا نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا جمعوا جدودا في العلا وجدودا |
والشاعر يمدح والد المخاطب بأنه كالمطر في الجود وهو والد الاقمار من قبيلة وائل وقد ملأ الأرض بالعدة والعتاد كناية عن القوة والسؤدد والسلطان ثم تأتي الصورة الفنية البديعة التي هي من خصائص شعر ابي تمام فكأن نسب هذا الرجل قد تجسد مكاناً تسكب عليه شمس الضحى نوراً بينما ينصب عمود فوقه من فلق الصبح وهو يريد بهذه الصورة ان يؤكد على وضوح النسب من حيث دلالة انسكاب الضوء عليه كما يؤكد على قيمته ورسوخه حين اقام فوقه عموداً من فلق الصبح ويروي صاحب الأغاني ان عمارة بن عقيل قدم الى بغداد فاجتمع عليه الناس يكتبون شعره وشعر أبيه وعرضوا عليه اشعار شعرائهم فقال له بعضهم ها هنا شاعر يزعم قوم انه اشعر الناس طراً ويزعم غيرهم ضد ذلك فقال انشدوني قوله فأنشدوه,.
غدت تستجير الدمع خوف غد وعاد قتادا عندها كل مرقد وأنقذها من غمرة الموت انه صدود فراق لا صدود تعمد فأجرى لها الاشفاق دمعاً موردا من الدمع يجري فوق خد مورد هي البدر يغنيها تودد وجهها الى كل من لاقت وان لم تودد |
ثم توقف المنشد قليلاً فقال له عمارة زدنا من هذا فواصل يقول
ولكنني لم احو وفراً مجمعاً ففزت به الا بشمل مبدد ولم تعطني الأيام نوما مسكنا الذ به الا بنوم مشرد |
فقال عمارة لله دره لقد تقدم في هذا المعنى من سبقه اليه على كثرة القول فيه حتى لقد حببت الي الاغتراب هيه فأنشده المنشد:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد فاني رأيت الشمس زيدت محبة الى الناس أن ليست عليهم بسرمد |
فقال عمارة: كمل والله لئن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واتساق الكلام فان صاحبكم هذا اشعر الناس وهذه الشهادة تؤكد الشجاعة الأدبية لعمارة بن عقيل فلم تمنعه الغيرة والحقد من أن يقول الحقيقة خاصة في ذلك الزمان الذي كان الشعراء فيه يتكسبون بالشعر فكان احرى بهم وهم في ساحة التنافس أن ينكر بعضهم بعضاً كما تؤكد الشهادة القيمة الفنية العالية لأبي تمام وهي شهادة تستند فقط الى الشعر وحده ويقال ما كان احد من الشعراء يقدر أن يأخذ درهماً بالشعر في حياة أبي تمام فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه وكان الرؤساء والوزراء يقدرون أبا تمام حق قدره,, روى ابو الفرج الأصفهاني في كتابه الاغاني ان ابا تمام قدم يمدح الحسن بن رجاء فاستنشده الحسن قصيدته اللامية التي امتدحه بها فلما انتهى الى قوله:
أنا من عرفت فان عرتك جهالة فأنا المقيم قيامة العذال عادت له ايامه مسودة حتى توهم انهن ليال |
فقال الحسن: والله لا تسود عليك بعد اليوم، فلما قال:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى فالسيل حرب للمكان العالي وتنظري حيث الركاب ينصها محيي القريض الى مميت المال |
فقام الحسن واقفا وقال والله لا اتممتها الا وانا قائم فقام ابو تمام لقيامه وقال:
لما بلغنا ساحة الحسن انقضى عنا تملك دولة الامحال بسط الرجاء لنا برغم نوائب كثرت بهن مصارع الآمال أغلى عذارى الشعر ان مهورها عند الكرام وان رخصن غوال ترد الظنون بنا على تصديقها ويحكم الآمال في الاموال اضحى سمي ابيك فيك مصدقا بأجل فائدة وأيمن فال ورأيتني فسألت نفسك سيبها لي ثم جدت وما انتظرت سؤالي كالغيث ليس له اريد غمامه او لم يرد بد من التهطال |
فقال له الحسن: ما أحسن ما جلوت هذه العروس,.
فقال ابو تمام: والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها اوفى مهورها.
هكذا يزدهر الشعر بين الابداع العظيم والتقدير المناظر له.