Thursday 9th December, 1999 G No. 9933جريدة الجزيرة الخميس 1 ,رمضان 1420 العدد 9933


مساحات بيضاء
عن الحب والموت,,!
ريمة الخميس

في عز تفتحها تمد خطاها الزهور نحو الذبول حتى تجف ويعتريها من الموت مبارحة اللون والرائحة فلا تعود تزيد عن مهمل الورق أو حفنة من تراب,, ومن عليائها في أوج الشموخ تسقط الأشجار عن شاهقها اذا ما أفلتها الموت واقفة فعراها من الحس قبل الورق، ومن الفرح واهتزازات الحبور ان داعبتها الرياح، فلا يبقى منها إلا هشيم الخشب,, وتتدافع لاهثة نحو الموت فراشات ان نجت من احتراق معجل في غواية النار وعمرها بعد ما تجاوز يوما واحدا حين تكون قد اكتملت لها الحياة,, وتموت النساء قهرا وكمدا قبل ان تبارح أجسادهن بالموت روح طاهرة او معذبة,, ويسقط الرجال فرسانا ترجلوا عن صهوة الحياة، غيلة، ومخاتلة تفت في الروح، او تعبا ووهنا ينخران في الجسد المسجى، ينتفض بلا جدوى او يستسلم بلا طائل على رغمه الى ارتعاشة متشنجة، نصفها ممدود في الحياة التي كانت ونصفها الآخر للتو شرع في ولوج ظلمة الغياب السرمدي، حتى تفزع في سجلها الروح فيبارح الناس اسماءهم، هم الى أبد من النسيان، وهي الى ركاكة التداول وابتذالاته,,!
اتلك هي الحياة التي نصطرع في ضجيجها ولا نكف؟! أليس الفناء هو حقيقة كل الحقائق، وأصدق الوعود التي لا ينال منها باطل أو خذلان أو فرار؟
أدميتوس في أسطورة قديمة أوغلت في محال المجاز رجل طيب، عوقب بأن توقع متى يموت، وكوفىء بأن تطول به أيام الحياة بقدر ما يتنازل له من أعمارهم الأحباب او الأهل رفضت الأم ان تمنحه يوما واحدا وفر منه الأب، لكن زوجة مخلصة وهبته كل أيامها وبارحت على الفور الحياة,, كذا لا تساوي لديها حياة المرء كلها لحظة واحدة تحتشد بأروع مشاعر الاخلاص وانبل القيم، لكنها محض أسطورة، وإلا لسفحنا العمر كله من أجل ثانية تطول ببقاء الذين رحلوا وما تركوا لنا غير البكاء!
لم أشأ ان استسلم لتيار عتي يشدني عنوة الى الوقوف وجها لوجه امام جوهر الحقيقة وألم الموت وفداحة البقاء، لكنها رغبة مفتعلة في ادعاء الصلابة وزعم الشجاعة للخروج عبر الكتابة من مأزق قسري بخطوات خلفية متراجعة، دون أن يدير المرء للروع ظهره، نستر في الوجوه تداعيها خلف مسوح وأقنعة تدعي القدرة على الكلام,.
عند شكسبير الموت والحب حقيقة واحدة، جولييت تحب تموت، وروميو,, وأبطال هاملت كلهم يموتون، فكلهم يحبون، من أوفيليا المضيعة الى هاملت الابن العاشق لأبيه، الذي يقضي وهو يجري عدالة الانتقام، والأم التي تحب فتخون فتموت، ولاأرتيس المحب لأخته وأبيه، وعطيل لم يقتله الشك والغيرة إلا لأنه كان منذورا للحب,, كأن الموت عقاب من أحب، أو أن الحب عقاب لكل من سعى الى الموت,,!
واليونانيون القدماء، الذين جعلوا للاعتدال وسطا ذهبيا، واتخذوا من عدم الافراط أساسا للحياة قبل الفلسفة، قرنوا في ادبهم الحب بالموت، فماتت انتيجونا العاشقة لأخويها، ومات هيمون، خطيبها المدله بحبها، مثلما مات أجاممنون غيلة بحب كساندرا، وكلوتنمنسترا آثمة بحب آخر، وانتحبت الكترا بعشق الأب، وتشرد لذات الحب أورستيس وغضب أخيليوس ثم مات في ثأره لموت من أحب، وهامت هيكوبا وتشردت أندروماخي، والأمثلة والأسماء لا تنتهي لتكون الحقيقة في أن الموت معادل حتمي للحب في الحالة الفريدة التي تخلت فيها الثقافة اليونانية عن دستورها في الوسط الذهبي بين الافراط والتفريط, فهل كان ذلك رغبة في الوصول بتحريك المشاعر الى ذروة بلا مدى، ام انه الادراك الواعي بأن الحب الذي هو ذروة العب من الحياة ونهم البقاء، وان الموت الذي هو ذروة الاستسلام للغياب والفناء حرفان تتشكل منهما كل الأبجدية في صياغة المعنى لمأساة الوجود الانساني؟ وهل كان هذا الادراك والاخلاص في التعبير عنه هو ما أبقى على الأسماء لهؤلاء الكتاب بعد ارتحال الأجساد دون ان تنال منها القرون أقل الخفوت والوهن؟
كأن العمل الإبداعي حين يولد في لحظة للادراك تحتشد بأروع مشاعر الاخلاص وأنبل القيم، وحده القادر مثل زوجة أدميتوس، على ان يصل بالحياة القصيرة للكاتب حياة أبدية جديدة بعد ان يدير للحياة ظهره ويرتحل، وآه لو أملك هذه القدرة على ان أمنح بالكتابة، لمدى عمري كله، لحظة واحدة من بقاء لعزيز غيبه عنا موت مباغت!
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved