Thursday 9th December, 1999 G No. 9933جريدة الجزيرة الخميس 1 ,رمضان 1420 العدد 9933


صورة سيدة لهنري جيمس
العلاقة الشائكة بين الرواية والسينما
إبراهيم نصر الله

لم يكن اختيار المخرجة جين كامبيون لرواية هنري جيمس الشهيرة صورة سيدة ، هو سبب تلك اللهفة التي أبداها كثيرون في انتظار فيلمها الأخير الذي يحمل العنوان نفسه، أو على الأقل لم يكن السبب الوحيد، لأن كل من شاهد فيلمها الأخاذ بيانو الذي فاز بسعفة مهرجان كان الذهبية عام 93 وأوسكار أفضل ممثلة، وممثلة مساعدة وسيناريو، كان يدرك أي بهجة وأي عمق وأي فن ذاك الذي يكمن في أعمال هذه المخرجة الأبرز بين مخرجات ومخرجي العالم خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، هي التي قدمت قبل بيانو فيلمها الروائي الأول سويتي ووصلت به إلى مهرجان كان السينمائي عام 1986،ثم فيلمها الثاني ملاك الذي فاز بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية عام 1991، وحقق نجاحاً مذهلاً، إلى تلك الدرجة التي أحس معها كثيرون أن ذلك الفيلم قد ظلم حين لم يمنح الجائزة الأولى.
ويبدو أن كامبيون هنا، من ذلك النمط من المخرجين الذين لا يندفعون خلف التراكم الكمي لعدد أفلامهم، بل يحرصون على تقديم نوعية متقدمة من الأفلام، يمكن أن تجد مكاناً لها بجدارة في تاريخ السينما.
ولا شك أن اقدام كامبيون على اخراج فيلم عن صورة سيدة الرواية الضخمة، والتي يصل عدد صفحاتها إلى أكثر من 800 صفحة، مغامرة كبيرة، لكنها في حالة كامبيون مغامرة مدروسة لأكثر من سبب:
فأجواء الرواية الاجتماعية - التاريخية تدور في القرن التاسع عشر، وهي تلتقي مع فيلمها بيانو الذي يدور في ذلك العصر، رغم أن صورة سيدة يتحرك في فضاء المدن ودهاليز المكائد الأثيرة على قلوب الطبقة الارستقراطية في ذلك الزمان، في حين ينفتح فضاء بيانو على عالم مغلق وسط محيط اجتماعي بدائي في الغابات.
أما اللقاء الثاني الذي يجمع الفيلمين فهو وحدة المعادلة التي تشكل العمود الفقري لحكايتيهما ونعني معادلة: المرأة الزوجة، الزوج، والرجل الثاني.
في حين يشكل موضوع المرأة ذاتها كبطلة أولى أو شخصية أساس في هذين الفيلمين العنصر الثالث، وربما يعزز صورة سيدة ذلك الطموح الذي تسعى إلى ترسيخه المخرجة، والمتمثل في سبر أغوار وأحاسيس المرأة المقهورة أو المخدوعة، من قبل الرجل، سواء من خلال القهر المباشر بيانو أو القهر المستتر القائم على الخديعة صورة سيدة .
ومن الظلم -على أي حال- حصر الفيلمين ضمن سلسلة أفلام المرأة، لأنهما يفيضان عن هذا الموضوع رغم مركزيته، تماماً كما تفيض الأطراف في الجسد البشري عن حدود العمود الفقري الذي يحملها، فأفلام كامبيون ساحرة أيضاً بعيداً عن موضوعاتها، وبعيداً عن مضامينها، ويكفي ملاحظة ذلك الشغف الذي تبديه في ادارة ممثلاتها خصوصاً، الذي يحولهن إلى كائنات جديدة تماماً لم يسبق ان تعرفنا عليها في أدوارها السابقة، ومن ينسى الأداء المذهل لهولي هنتر في بيانو الذي من خلاله امتلكت دورها التاريخي على الشاشة.
ولعل نظرة عن قرب، ستجعلنا نصل بسهولة إلى نتيجة واضحة حول بطلة صورة سيدة ونعني الممثلة نيكول كيدمان التي اقتطفت أجمل وأعمق أدوارها، بعيداً عن صورتها التقليدية التي حكمت أفلامها دائماً ونعني صورة التابعة التي تتحرك في ظل البطل، سواء أكان هذا البطل زوجها توم كروز أو سواه.
في هذين الفيلمين بيانو، صورة سيدة اكتشفنا ممثلتين بارزتين، ما كان لهذه الفرصة أن تتوافر لهما لولا وجود مخرجة حساسة مثل كامبيون، على الرغم من أن حظ هولي هنتر سيظل الأقوى والأهم لما حققه بيانو من نجاحات لم يستطع صورة سيدة تحقيقها، والذي أهّلها للفوز بأوسكار أفضل ممثلة، لكن حظ كيدمان عاد حين تألقت في دور أهم، ونعني هنا دورها الأخير في فيلم ستانلي كوبريك عيون مغلقة على اتساعها .
تعتبر رواية صورة سيدة الرواية الأولى التي كرست كاتبها واحداً من أهم الروائيين الأمريكيين عندما نشرت عام 1881، وإن كانت هي الثانية بعد روايته الأمريكي التي نشرها عام 1877، ويرى النقاد أن مستواه الإبداعي انحدر بعد هذه الرواية لمدة خمسة عشر عاماً، إلى أن استعاد حيويته في السنوات من 1897 الى 1907، وقدم السفراء ، جناحا اليمامة ، الإناء الذهبي ، ولكنها الرواية الأصعب والأعمق حسب قول هاني الراهب في مقدمته التي كتبها للطبعة العربية لصورة سيدة، والتي صدرت في دمشق ضمن منشورات وزارة الثقافة السورية عام 1989.
تتحرك كامبيون في دهاليز هذه الرواية بأمانة ما استطاعت، إلا أنها لا تستطيع أن تغطي بفيلم تفاصيل الرواية الغنية، لا لشيء إلا لأن علاقة الفيلم مع الرواية وعلى المستوى العالمي ظلت محاطة بالشك، حيث الحنين يجرف المشاهد إلى النص الأدبي إذا كان قد قرأه في السابق، ولا يستطيع المشاهد غالباً النجاة من هذه المعضلة إلا إذا كان يجهل النص الروائي.
وصورة سيدة كرواية أكبر من أن يحيط بها فيلم، ولذا، سيكون على أي مخرج أو كاتب سيناريو أن يلعب لعبة الإقصاء، محاولاً ما استطاع أن تظل الخيوط الرئيسية موجودة، وإن كان اختيار ألوانها يعود إليه في النهاية ليقدم فهمه للعمل الذي يود تقديمه في صورة لم يكن قد أُعد لها أصلاً.
وفيلم كامبيون، ولّد، أو ترك خلفه فراغات كثيرة، سببها تلك القفزات بين الأحداث التي أشبعها هنري جيمس وصفاً وتحليلاً، ولذا فإن أفضل طريقة للتفاعل مع هذا الفيلم قد تكمن في العودة إلى نص الرواية!!
إن رحلة بطلة الفيلم - الرواية، إيزابيل آشر رحلة مضنية في هذا العالم، رحلة قاسية وتبدو طويلة للغاية، ولعل أهمية كامبيون كمخرجة أنها تجعلها نحس بالزمن الذي يبدو أطول بكثير من الزمن الطبيعي الذي قطعته بطلتها، لأنه لم يكن رحلة بين رقمين يشيران إلى عامين متباعدين، بل رحلة بين عالمين، عالم البراءة الجميلة والفضول البريء، إلى عالم الإدراك بما يحمله من دمار.
وبعيداً عن تلك المقدمة الغريبة عن الفيلم التي تفتتح بها المخرجة فيلمها استعراض عدد من وجوه الفتيات خطفاً أمام الكاميرا، وثرثرة حول صعوبات الحب، والعثور على أصدقاء فإن حياة إيزابيل تبدو عبوراً لسلسلة من المكائد والخفايا التي تسفر تدريجيا عن فجيعة كبرى في حياتها الزوجية، حيث الزوج يتطلع إلى ابتزازها في أكثر من موقف بهدف الحصول على ثروتها، بل تجريدها من كل ما تملك، وهو الأكبر منها سناً، والمختفي خلف قناع الثراء، لكنه في الحقيقة على شفا الانهيار,
ثم ذلك التمرد الذي تبديه إيزابيل وحسها العارم بالانطلاق، ويقابله هو ظاهرياً بالتفهم، لكنها ومع تقدم الفيلم تكتشف أنها سارت إلى جحيمها طائعة.
لكن ما أرهق الفيلم حقاً، هو ذلك الاختزال الذي دفع كاتبة السيناريو في لحظة ما أن تقفز أكثر من مائة صفحة، مما يربك المشاهد، حيث لا يفهم أحياناً سبب الانتقال من مكان إلى مكان، أو السبب الكافي لتعلق إيزابيل بشخصية جودوود الأمريكي، حتى لكأن النتائج تطل في أكثر من موقع مجردة ومعزولة من / عن مقدماتها.
وقد ادى الممثل جون مالكوفيتش دور أوزموند الزوج، ببراعة فائقة، حتى لكأن لون جلده كان يتغير حسب كل موقف، دون أن يُشعِرَ من أمامه بأنه تغير.
فيلم صورة سيدة لا يبدو أنه ذلك الفيلم الكامل مقارنة ببيانو ولا يبدو فيلماً قادراً على الاستحواذ على جمهوره من زواياه كلها، ولكنه فيلم مخرجة مبدعة، وشخصيات على وشك الاشتعال، وفيه ذكاء فني لافت، مرفوع على حساسية تصوير شفافية وعميقة، حيث نلمح بوضوح أيضاً بطولة الكاميرا التي ترحل من بلد إلى بلد، بدءاً من أمريكا ومروراً ببريطانيا وايطاليا.
كما أن دقة اختيار الممثل المناسب - الممثلة المناسبة للدور المناسب غاية في الاتقان، فثمة توزيع أخاذ للأدوار: مارتن دونوفان أدّى دور ابن العم بكفاءة عالية، وكذلك شيلي دوفال التي أدت دور أخت الزوج، ثم الأداء المبدع للممثلة باربرة هيرشي في أدائها لشخصية المرأة الشريرة التي تدعو للشفقة.
فيلم صورة سيدة محطة أخرى في مسيرة مخرجة مبدعة، وممثلة تبدأ بداية جديدة، يمكن أن تصل بعدها إلى نتائج كبيرة، ولممثل لا يعتبر من النجوم الكبار، لكنه من الممثلين الكبار دائماً ونعني جون مالكوفيتش.
كما يبقى فيلم صورة سيدة نموذجاً للعلاقة الشائكة بين فن الرواية وفن السينما.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved