Thursday 9th December, 1999 G No. 9933جريدة الجزيرة الخميس 1 ,رمضان 1420 العدد 9933


صدى الإبداع
لا يمكن فصل المبدع عن ذاته
الحلقة (9) والأخيرة
د, سلطان سعد القحطاني

تحدثنا فيما مضى عن الروافد التي يستعين بها السارد للسيرة الذاتية والبناء الروائي على حد سواء، وعرفنا ان الفرق يكمن في الصياغات الفنية التي يعرف بها الفن السيري كنوع من انواع السرد الفني في زمن له خصائصه الفنية والتقنية، وعرفنا ان اهم ما يميز السيرة الذاتية بدؤها من حياة الطفولة، وما يليها، حيث تتجسد التجارب الاولية من حياة الانسان انطلاقا من الحياة العفوية، وما يكتنفها من اسس نفسية يكون لها بالغ الاثر سلبا او ايجابا، وبالتالي يتكون البناء من بداية الحياة الى النهاية التي يبدأ منها النص بشقيه السيري البحت والسيري المصاغ في قالب روائي متمسك بأصول وقواعد البناء الروائي، لذلك لا يمكن تقسيم السيرة الى مراحل لا يربطها رابط زماني، ولا تشكل في قوالب منفردة خارج اطار الزمان التاريخي القصصي، وبنية المكان باعتباره البقعة الجغرافية الحية لارضية السرد (الذي يشتمل على السيرة بروافدها) والرواية بأركانها الموجبة.
اذن السيرة سرد تاريخي لحياة انسان من الطفولة حتى زمن السرد, وقد افضنا الحديث في ذلك فيما سبق ومن امثلتها سيرة احمد امين الذاتية التي صاغها في اسلوب سردي، توافرت فيه العناصر الفنية وكتب الدكتور إحسان عباس سيرته الذاتية أخيراً بأسلوب ادبي راق انطبقت عليها شروط السيرة الذاتية وروافدها، حتى انه ذكر في اخرها كلمة (اعترافات) وقد اخذها من الطفولة في عين (غُزال) ابن احد الرعاة في فلسطين المحتلة الى ان تقاعد بدرجة استاذ جامعي، حيث السيرة الذاتية القائمة على تاريخ مراحل الحياة الخاصة، بعيدة كل البعد عن الصياغة الروائية، في واقعها ومتخيلها, ولا يستطيع الدارس فصل المبدع عن ذاته، ولا المبدع نفسه يستطيع ذلك، مهما حاول انكار ذاته، والاندماج في شخصيات المتخيل، واقل ما يكون الاسلوب، وقد قالت العرب (الأسلوب الرجل) وهناك ما يعرف، بالنفس بالفني، وهي الطريقة التي ينتهجها المبدع الذي يمتلك الصياغات الفنية بحكم الموهبة الروائية التي يستطيع توظيفها توظيفا فنيا يتقمص فيها شخصية البطل في قالب سيري بدايته الطفولة ونهايته كتابة الرواية نفسها, وقد عرفنا ان السيرة فن من الفنون الادبية الراقية في هذا الزمان الذي ازدهر فيه النثر الفني، وصار ينافس ديوان العرب (الشعر), وهذا لا يعني ان الشعر اسقط من خارطة الادب والموروث العربي، لكنه يعني الوعي بأهمية النثر الروائي، والسيري، لاستطاعة السرد ايصال الفكرة وطرق ضروب المعرفة بالطرق التي قد يعجز عنها الشعر في كثير من الاحيان, هذا من ناحية ومن ناحية اخرى، لم يعد الشعر حفظا مقصورا على المشافهة في زمن القراءة والكتابة، وعصر الاتصال الفضائي، والسلكي، واللاسلكي، والدليل على ذلك كثرة الرسائل الجامعية حول الرواية والسيرة والسرديات بأنواعها، واشكالها, ومهما يكن من الأمر، فإن ذكريات الكاتب وتجاربه في الحياة، هي قوته الابداعي، اضافة الى ما يبلور من خيال يمزجه بواقع هذه الذكريات والتجارب حلوها ومرها, وقد افاد الذين كتبوا سجلاتهم بأشكال مختلفة من روافد السيرة الذاتية، ولم تكن سيرا لها اصولها كما عرفنا من قبل، لكنها المرجع الاساس، والمخزون الذي يمتح المبدع منه في وقت الحاجة, كانت ذكريات توفيق الحكيم في مذكرات نائب في الارياف وذكريات نجيب محفوظ في بين القصرين وعند الطيب صالح في موسم الهجرة الى الشمال وعند عبدالعزيز مشري في كل رواياته.
واذا درسنا الرواية السيرية وتعلقها الشديد بفن الرواية، وجدناها تلونا اساسيا لبناء الرواية خاصة بعد دخول المنهج (الفرويدي) على يد الروائي العالمي (جيمس جويس jamse joyce) حيث لا يخلو عمل من اعماله من رافد من روافد سيرته الذاتية، وكذلك (شارلس دكنز Charles Dickens) وكان ذلك في اواخر القرن التاسع عشر، واوائل القرن العشرين وقد اتخذ كل منهما بطولة اعماله سيرة لحياته، او رافدا يمثل مرحلة من مراحل حياته مثل (أهل دبلن Dubliners) عاصمة ايرلندا، والاوقات الصعبة Hard Times لدكنز، وهي تمثل ما قاساه في طفولته، وشبابه, ولاقت هذه الاعمال قبولا حسنا عند قراء الرواية البريطانية لما تحتويه من واقعية شديدة وفائدة علمية وادبية ملموسة، تلامس مشاعر القراء، ويجدون فيها قربا روحيا ونفسيا منطبقا على ارض الواقع اليومي المعاش، بدلا من رومانسية الخيال الفردي الاناني, ففشل جويس في دراسة الطب في فرنسا، وعودته الى دبلن افادت الكثير من تجاربه، والم الاثر النفسي فجر فيه كوامن الموهبة والاستعداد الفطري، وحولها الى تجارب صادقة، إضافة الى حبه لوطنه الذي ألهب مشاعر الشباب في زمانه، وقوى من صلة الايرلنديين بوطنهم الام حتى في المهجر الامريكي, كما ان صعوبة حياته، وفشل والده في تلبية متطلبات حياة اسرته، وسوء سلوكه دفع دكنز الى العمل وهو صغير السن بعد هروبه من ملازمة الراهب، لتوفير العيش لأمه، واخوته الصغار، لذلك صور معاناته الشديدة في سبيل العيش، من مغلف زجاجات في لندن براتب لا يتعدى (الشلن) الواحد يوميا الى كاتب تشتري الصحف منه الكلمة بشلن، وقد بدأ هذه المعاناة من الصغر مستعينا فيها بروافد السيرة الذاتية، من ذكريات هي مخزون الذاكرة ومخزون الروائي، ومذكرات تعينه على تحري الصدق الفني، ويوميات يستعين بها على معرفة الزمان والمكان,, ومحصلة هذه الروافد تكون صياغة فنية تتجسد في معاناة الراوي الداخلي لكل هذه الاحداث، سواء كانت سيرة ذاتية او غيرية، او رواية سيرية.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved