Thursday 9th December, 1999 G No. 9933جريدة الجزيرة الخميس 1 ,رمضان 1420 العدد 9933


نهار جديد
عبدالله سعد اللحيدان

لاسباب، قد تكون خاصة بي، أجدني لا أميل الى مقاربة الافكار المجردة الجاهزة الا سطحياً,, وبريبة وحذر، متحاشياً الغرق في جدليتها الذهنية الباردة، وابدأ عادة بتأمل مساراتها,, من انبثاقها من تجليات المخيلة الى تشعباتها في دروب الحدس والاحلام، ثم احاول الابتعاد حين تبدأ في سلك مسار الموضوعية الاخيرة والعقلانية النهائية صوراً مفكرة,, كانت متمظهرة في اطارها النهائي على شكل نظريات ومفاهيم، معلناً استسلامي فقط لسيطرتها الأولى على الوجدان، معلناً انسحابي مختاراً حين تدخل حوزة المنطق بعلله ونتائجه، بحيث تبقى مقاربتي لها اولية بدائية لا تتجاووز مرحلة الامتزاج مع امزجتها فقط وهي في حالة التكوين الاولى ومخاضاته الاشراقية، حتى اذا بدأت الصور والحالات والاحلام والخيالات تتجرد من اسرار الذات واغوار اللاوعي وروحانية التأملات الاولى متحولة الى عريها النهائي الاخير، وجدتني اعود الى التشبت بنفسي، محاولاً ان لا افقد براءة الحدس الاول واحلامه البكر، مكتفياً بالقبض على خيوط احلامها قبل ان تنزعها وتتنازل عنها، وهي تسبر وتعبر الطريق التي تؤدي بها الى التعميم والتنميط والتمدرس والتمذهب الذي وهو في طريقه الملتوية يذهب بصفاء وبراءة الحلم الاول والذي كان يعلن عن دوافعه الانسانية بداية والتي تنفضح وتنكشف وتتعرى في شكلها النهائي,, عصاً في يد معلم وسيفاً اجرائياً في يد ثقافة مدرسية اكتسبت شرعيتها أو تحاول اكتسابها وفرضها معلنة عن, ومتشبيثه ب ,, الاعلان الاعلان فقط عن نقاء وانسانية الدوافع الاولى ,, في حين تجنح بعد احتلالها المشهد الى التحول الى نظرية آحادية ضيقة الافق سيئة الظن والتفسير والممارسة والاهداف والنتائج، وان تظاهرت بعكس ذلك، ولن تشفع لها بداياتها او ما اعلنته في البدايات.
لذلك، ولأسباب اخرى، قد تكون خاصة بالمدارس والنظريات والتوجهات الثقافية الصارمة المحددة ، اجدني لا اميل اليها الا في مراحلها البريئة الاولى، واسعى الى الانفصال عنها قبل ان تبدأ في ممارسة اي من سلطاتها الفكرية عليّ.
اما الانفصال النهائي عنها فيبدأ، عندما تبدأ هي في اعلان افلاسها الثقافي وضعف مقوماتها وامكانياتها، عندما تبدأ في البحث عن شرعيتها في الماضي وهي في بدايتها, او لم تكد تتجاوز البدايات، والا واذا كانت واثقة ما الذي يدعوها الى نبش القديم باحثة عن اي شيء او اثر يمكن ان يحمل توافقاً معها,, حتى ولو كان هذا التوافق عفوياً,, ولم يصدر في حينه عن قصدية أو يمثل منهجاً او ميزة او خاصية اسلوبية لآثار ثقافية قد تمثل سباقاً او مرحلة او جزءاً من سياق او مرحلة.
تبدأ في اخذ مسار آخر، وأبدأ في أخذ مسار آخر، حين تحاول ايجاد اصول واجداد واسلاف واعراق وخلايا دم وراثية وميكانيزم وصفات تشترك معها في اي شيء,, وتحاول من خلالها وبالبرهنة والامثلة السابقة والحاضرة والمطلوبة والمستجداة ان تثبت ان لها اصولاً,, وانها ليست لقيطاً,, او ابداعاً جديداً.
في هذه المرحلة بالذات تبدأ في البحث عن مسوغاتها خارجها، وعن دم، مستعار ليجري في عروقها,, وعن وهم قديم,, وعن ماء قديم وبذرة قديمة، وكأنها، وبدون هذا الدم المستعار والوهم القديم والماء القديم والبذرة القديمة، لا يحق لها ان تعلن عن وجودها او ان تمارس الحياة او تقول عن نفسها انها نبتة صالحة.
في هذه المرحلة، تبدأ في تجبير كل ابداع جديد لصالح ابداع سابق، وتنسب كل مولود جديد,, لاب او جد قديم مفترض او متخيل او متوهم، ويبدأ الخلل العكسي، اذ يعتقد كل حفيد في ازدواجية وتضاد ومفارقة انه سيبقى حفيداً,, ثم يفاجأ بأنه اصبح اباً ثم جداً ثم ميتاً ثم رميماً ثم تراثاً ثم تاريخاً ثم رمزاً ثم اسطورة ثم خرافة يبحث احفاد الاحفاد عن شرعيتهم في تجليات نثار بقايا تحفظها الذاكرة من رمادها.
تترك الابداعات الجديدة جدتها، وتتخلى عن الابداع في ابداعها، وعن الاشتغال على هذه الجدة والابداع,, حين تتناساهما وقد كانا الهدف الاول لتبحث لها عن شجرة نسب قديم، تكون هي اول ضحايا هذا البحث ، ويتجلى ذلك الضياع حين يبدأ الجميع بالاشتغال على تاريخ الابداع,, لا على الابداع.
هكذا، بحث بعض الحداثيين العرب عن نسب لابداعهم عند النفري وابن العربي وابن الفارض ، كما بحث السرياليون عن نسب لابداعهم عند بودلير ورامبو ونرفال ولورتريامون ، كما بحث البنيويون عن نسب لنظريتهم عند فيتاغورس وافلاطون وديكارت وهيغل وماركس ، وكما يبحث كثيرمن الجدد عن شرعيتهم في صلتهم بالقديم وينصرفون عن ابداعهم الى البحث عن آبائهم,, ولو كان هؤلاء الآباء اوهاماً، وكأن القيمة لا تكمن في الشيء,, بل في نسبه، وكأن التاريخ هو ما يجعل الفن فناً والابداع ابداعاً، وكأن القديم هو ما يمنح الجديد صفة الجدة والحداثة,, أما اذا كان من باب المقارنة والمقارنة فقط فنعم.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved