السرديات,, والمنبر خيول ومربعات علي الدميني |
تنهض ممكنات جمالية من خارج النص بمهام تكثيف قدراته التواصلية وملء فراغات تشكله، مثل حسن الالقاء والتأثيرات الفنية المصاحبة في السرديات، والموسيقى والاداء في الشعر و فيما تقوم اخرى من داخله بمضاعفة المسافة بينه وبين المتلقي من جهة بنائه الفني وانتمائه الى نسق ثقافي ما او حساسية فنية مغايرة.
وفي هذا المسابق طرح فرسان الامسية القصصية المقامة في جمعية الثقافة والفنون بالدمام في الاسبوع الماضي وهم بدرية البشر، وحسن الشيخ، عبدالله الوصالي امامي سؤال السرد والمنبر بشكل عميق ساعد على ارجاء تعليقي على تلك الامسية في حينها الى وقت آخر اقارب فيه ذلك السؤال.
وكما اصبح مألوفاً لنا، فان بنية السرد المكونة من حكي و خطاب تنتمي في الجانب الحكاتي منها الى تجربة الثقافة الشفوية حيث كان تداول القصص والسير الشعبية فناً منبرياً مثلما الشعر, وحيث استثمر الشعر المنبر او استثمر بضم الالف و غدا فناً خطابياً خالصاً كرسه الزمن التاريخي، فان فن القصة القصيرة المعروفة لنا الآن لا ينتمي لذلك الحقل الابداعي القديم وانما يرتبط في بنيته العميقة بزمن الثقافية المكتوبة في الثقافة الغربية منذ زمن لا يتجاوز المائتي عام, ولذا فكلما اشتغلت فاعلية الخطاب الفنية على مادتها الحكائية، كلما اصبح النص عصياً على عملية تحويله الى نص سماعي، وبالتالي تتحول قابلية تذوقه من حقل الشفاهة الى حقل الكتابة, وهذه الاشكالية المصاحبة لتزاوج ايصال النص للآخر بواسطي العين والسمع قد طالت في عصرنا الراهن قصيدة التفعيلة ووسمتها بالغموض لدى الغالبية بحكم تأثيرات الثقافة الشفوية كما وصمت قصيدة النثر بالابهام.
وحيث تتبدى فاعلية التراكم التاريخي للذائقة كعامل مساعد للنص الشعري على اختراق المسافات بين طرفي عملية الابداع المنشىء والمتلقي لايصال النص الشعري للسامع اتكاءً على الارث وعلى طبيعة النص الشعري المكثف وجمله الشعرية القصيرة, الا ان التجربة التاريخية المصاحبة لبنية الثقافة الشفوية ذاتها قد ساعدت على اقصاء السرديات لانها سرد لا نظم وأعاقت تواصل القارىء مع تكوين تذوق منبري لها.
وفي أمسية الدمام المشار اليها، انقسم التفاعل السماعي مع النصوص المقدمة بين آليتي تفاعل، طغت الاولى التي يمكن توصيفها بلذة التعاطي مع النص، ازاء الاخرى الاقل انفعالاً به والتي تعرف بالهزة, وباعتماد ذاكرة السمع الآنية نرى ان تفاعل عوامل عديدة قد تضافرت لتكريس مناخ التواصل مع نصي بدرية البشر بدءاً بالمقدمة الاحتفائية للاستاذة شريفة الشملان، وعطفاً على الحضور النسائي المتميز الذي انفعل ببعض انشغالاته الفنية والوظائفية المعبر عنها في قصص بدرية, ولكن العامل الاكثر فاعلية في تلك الطقوس والاحتفالية هو ممكنات القاصة على تمثل طقس المنبر، حيث استطاعت توظيف طبيعة المادة الحكائية في اداء منبري يتصف بالعفوية والحميمية الدافئة رغم الاخطاء النحوية لتقديم نص ذي خاصية حكائية طاغية يشتغل على اعادة انتاج موقع المرأة في الذاكرة الشعبية في النص الاول، وعلى الكشف عن معاناة نموذج نسائي معاصر يعايش التحولات الحياتية ويقع دائماً ضحية لسطوة آلياتها.
وبمقاييس العلاقة بين تشكيل النص الابداعي وطقسية تقديمه منبرياً كوسيلة قراءة سماعية يمكننا ان نرى تميز نصوص بدرية البشر من حيث الاعتماد على تكريس فاعلية الحكي وتعظيم حساسيته المنتمية للثقافة الشفوية على حساب تقنية النص او خطابه، وافتقار مقرؤيته التالية او انتمائه الى حساسية الثقافة المكتوبة.
ويمكن النظر الى ما قدمه حسن الشيخ بنفس الرؤية ، حيث قرأ نصين ينتميان الى المناخ الاستعادي للحكاية ذاتها من حيث اعتماده آلية التوليف السردي، واعادة كتابة معطى حياتي وقع او يمكن تخيل حدوثه مع تميز في توظيف منطقة المفارقة النصية التي يعتمدها منطق النص الحديث البطل الهارب من جبهة الحرب لكي يتزوج بعيداً عن احتمالية الموت الواضحة فيجد الموت في قريته مترصداً له بصاروخ خارج الجبهة ، لكنه دون شك قد وضع يديه على ذلك العنصر المحتفى بالمفارقة دون ان يكمل استغلاله ابداعياً الى نهايته فبقيت نصوصه في حقل لذة الاستعادة وعتبات المفارقة.
اما عبدالله الوصالي، فقد كان الوجه الآخر من مزدوج اللذة والهزة وخاصة في قصته الايسكريم حيث اشتغل على نصه بطريقة مختلفة تقتفي اثر لغة الاختزال والاقتصاد المحايثة لطبيعة الكتابة الشعرية, وقد نجح في تحرير نص يمكن القول بحواريته حيث بدأ السارد محايداً وكأنما يمسك بكاميرا تصويرية عن بعد تصور شراء امرأة لقطعة ايسكريم ، فلا يتدخل في تحريك بطله او تحميله اية حمولة انتقادية او وجدانية، بينما تتقدم حركة النص بايقاع عفوي في ظاهرة، عميق وماكر في بنائه الاعمق مستخدماً كثافة فعل المفارقة الى اقصى درجاته حيث يتحول النص الى كتلة من المشاعر التي تصيبنا بهزة المكاشفة الحارقة، وهذا ما يجعل العمل منتمياً الى ذائقة اخرى هي ذائقة الثقافة المكتوبة، حيث لم يحتف به السامعون كما كان يستحقه.
في تلك الامسية كنت اتحسس بوادر صراع بين ذائقتين على مستوى فرسان القصة و مستوى الجمهور، وهو صراع يطل برأسه بين كتاب القصة بشكل حي لكننا معشر الشعراء نفرح باكتوائهم بذلك الجدل العنيف الذي مازلنا نصطلي بناره ونوره كل يوم.
هناك حيث نجحت بدرية البشر لاتكائها على تقنية منبرية في نصها وادائها، لم يبد النجاح حليفاً لعبدالله الوصالي رغم تميز نصوصه، فهل كانت لعبة المنبر حكماً عادلاً؟
لاشك ان للمنبر شروطه العفوية والقسرية ايضاً واننا سنظل منقسمين حول ضوابط تقويم عمل ابداعي يلقى من على المنبر بحيث قد يبدو كاتب سماعياً اقل نجاحاً مما يستحقه نصه مقارنة بنجاحه عبر الكتابة المقرؤة، فيما سيبدو نص آخر اكثر نجاحاً لقربه من شروط المنبر.
فهل علينا ان نكيف نصوصنا لتصل الى جمهور السامعين او اختيار ما يلائم الذائقة السماعية، ام نستمر في قراءة ما يقتنع به الكاتب حتى وان لم يتفاعل معه الجمهور؟
انها اسئلة النخبة والجمهور، واسئلة اي موضع يتغياه الكاتب واي جمهور يتوخى التواصل معه، وهي اسئلة ذات طبيعة اشكالية، وما اخالها الا ستبقى معلقة امام النص المقروء والمسموع حقبة طويلة في الشعر والقصة حتى يحسم الزمن باتجاه اية حساسية فنية علينا ان نسير؟
|
|
|