فشل مؤتمر سياتل في التوصل إلى اتفاق على بدء مرحلة جديدة من المفاوضات التجارية، ولم يصدر عن المؤتمر اعلان ختامي يحدد اسلوب عمل منظمة التجارة العالمية مع الألفية الثالثة، وقد جسد هذا الفشل هزيمة لانصار العولمة، بل ربما لايديولوجية العولمة نفسها.
فالمؤتمر حال نجاحه كان سيطلق مرحلة جديدة من عولمة التجارة تدعم من هيمنة الولايات المتحدة والشركات العملاقة متعددة الجنسية,, مرحلة لا تراعي مصالح دول الجنوب أو حتى خصوصية أوضاعها الاقتصادية والثقافية، كما لا تراعي مصالح العمال ومصالح المستهلكين في الدول الصناعية المتقدمة، علاوة على جمعيات الدفاع عن البيئة,, من هنا فإن فشل المؤتمر وتعثر الانطلاقة المتغطرسة لمسيرة العولمة يعتبر بكل المقاييس انتصارا لكل القوى والفاعليات المضارة من العولمة.
والمدهش أن هذه القوى والفاعليات تمثل معسكراً عريضاً وغريباً من البشر، يضم اطراف بينها تناقضات عميقة في الفكر والسلوك، لكن كل هؤلاء الفرقاء يجمعهم شيء واحد هو الخوف من العولمة، وضرورة العمل على مواجهتها، لكن كل فريق يسعى إلى مواجهتها بطريقته ولتحقيق أهدافه، فنقابات العمال في الدول المتقدمة بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية تخشى من زيادة البطالة نتيجة قيام الشركات متعددة الجنسيات بنقل مصانعها وأنشطتها إلى الخارج، من ناحية أخرى فإن هذه النقابات تشعر بأن حرية التجارة ستؤثر على قدرة السوق المحلي على منافسة صناعات الدول النامية التي تنخفض فيها تكلفة الأيدي العاملة, وعلى النقيض من نقابات العمال نجد جمعاعات أقصى اليمين في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ترى أن العولمة تفريط في السيادة الوطنية، وتخل عن الديمقراطية حيث لن يكون بمقدور الدولة في ظل اتفاقيات منظمة التجارة تحديد نسبة الرسوم الجمركية أو فرض قيود على الاستيراد, طرف ثالث في معسكر اعداء العولمة يتمثل في منظمات البيئة، وهذه المنظمات من الكثرة والتنوع بحيث يمكن العثور على تناقضات بداخلها، لكن وبصورة عامة ترى أن آليات عمل العولمة، واتجاه الشركات المتعددة الجنسية إلى الاندماج وتشكيل كيانات عملاقة سيجعلها تعمل بعيداً عن ضوابط ومعايير سلامة البيئة وخاصة أن هذه الكيانات العملاقة ستطلق كثيرا من مشروعاتها الصناعية من دول الجنوب، التي قد لا تطبق المعايير الدولية في سلامة البيئة أو تتساهل في تطبيقها جذبا للاستثمار الأجنبي ممثلا في هذه الشركات العملاقة.
أما الطرف الرابع في معركة العولمة فيعبر عنه تحالف عريض من جمعيات الدفاع عن حقوق المستهلك في الولايات المتحدة والدول الغربية، حيث يؤكد خطاب هذه الجمعيات أن عولمة التجارة لم تحقق الازدهار الموعود، ورخص الأسعار المنتظر، بل فتحت المجال وبدون ضابط أمام مئات الشركات العملاقة للدخول في تكتلات واندماجات احتكارية ستقود إلى ارتفاع الأسعار، وحرمان العامل والموظف البسيط من حقوقه في الحصول على فرصة عمل.
وأخيراً تأتي دول وشعوب الجنوب كطرف خامس في معسكر المناوئين للعولمة، وأشير بداية أننا أمام طيف واسع من الدول والشعوب والجمعيات الأهلية غير الحكومية، لكن الصوت المسموع داخل هذا الطيف هو صوت الدول، وهنا تكمن اشكالية اختلاف حسابات ومصالح دول الجنوب، فدولة مثل كوريا أو ماليزيا تختلف حساباتها كثيراً عن دولة كناميبيا أو أرجواي أو موريتانيا, وقد عكس مؤتمر سياتل وأعماله التحضيرية هذه الاختلافات، فثمة دول عديدة تنتمي لعالم الجنوب، علاوة على اليابان كانت تطالب بمراجعة قوانين مكافحة الاغراق التي تسمح للحكومة الأمريكية بفرض رسوم وتعريفات كاجراء عقابي ضد المنتجات أجنبية الصنع ترى الحكومة الأمريكية أنها تباع بأقل من التكلفة، وقد رفضت الولايات المتحدة ادراج هذا الموضوع على جدول أعمال مؤتمر سياتل خوفا من سخط الجماعات الصناعية واتحادات العمال.
وتطالب أغلب دول الجنوب والتي تشكل أربعة أخماس عضوية منظمة التجارة العالمية (تضم 135 دولة) أن تقوم الدول المتقدمة بمساعدتها على تسوية مشاكلها الناجمة عن تطبيق اتفاقيات دورة أورجواي للتجارة الحرة التي اختتمت أعمالها عام 1994 كما تطالب بالحصول على المزايا التي وعدت بها في دورة أورجواي ولم تتحقق.
من هنا تشعر دول الجنوب بعدم عدالة النظام التجاري المقترح للعولمة، كما تشعر بأن الدول الصناعية قد أعدت مسبقاً مجموعة من القوانين والاتفاقيات وتحاول فرضها على دول الجنوب، ومن هذه القوانين منع تشغيل الأطفال حيث لوّح كلينتون بامكانية قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الدول التي تسمح بعمالة الأطفال، وهو ما اعتبرته كثير من دول الجنوب تدخلا في شؤونها الداخلية.
ومجمل مخاوف دول الجنوب دفعتها إلى المطالبة أمام مؤتمر سياتل بضمان نصيب لها من النمو في التجارة العالمية، فضلاً عن مراعاة الأوضاع المعيشية وفرص العمل في دول الجنوب.
دروس مستفادة
وبنظرة سريعة على الاطراف الرافضة للعولمة نجد أن أربعة منها تنتمي للعالم المتقدم، وبالتالي فإن مخاوفها تعبير عن هموم أهل الشمال، كما أن معظمها هي عبارة عن جمعيات أهلية غير حكومية قد ترفض سياسات حكوماتها، لكن الأهم أن تلك الجمعيات تسعى لتحقيق أهداف لا تتفق مع مصالح دول وشعوب الجنوب، فزيادة صادرات دول الجنوب إلى الدول المتقدمة قد تعني ببساطة تقليص فرص العمل لاعضاء النقابات في الشمال.
في ضوء ما سبق يمكن استخلاص معركة سياتل التي ارتبطت أيضا باشتباكات دامية واحداث عنف هي:
1 مراجعة ادراك العقل العربي للعولمة كمسلمة لا مجال لمراجعتها أو حتى تعديل شروطها، فقد سيطرت على الفكر العربي وعلى السياسات الحكومية فكرة أن العولمة أصبحت واقعا ولا مجال لرفضها، بل يجب التعامل معها كما هي، فالولايات المتحدة التي تقود ركب العولمة قادرة على فرض ارادتها على الدول الصناعية وعلى دول الجنوب.
لكن أن تصدر المعارضة من داخل البلد القائد الرسمي للعولمة فإن ذلك يشجعنا على مراجعة نمط تفكيرنا وتعاملنا مع العولمة، واعادة التفكير في العولمة انطلاقاً من كونها عملية لها انصار وخصوم، وأن الشد والجذب بينهما أمر وارد، كما أن للغرب دوراً كبيراً في معركة العولمة.
2 أن العولمة كعملية شاملة لكافة أوجه الحياة تحمل في جنباتها كثيرا من القوى المتعارضة، وبعض هذه القوى داخل الولايات المتحدة والعالم الصناعي المتقدم، بل إن اليابان كأحد أهم الدول الصناعية المتقدمة لها مشاكلها التجارية والثقافية مع العولمة، وبالتالي فإن العقل العربي عليه مراجعة الفكرة البسيطة القائلة بأن الولايات المتحدة والدول الصناعية المتقدمة والشركات متعددة الجنسية تقود العولمة، أذ إن هذا المعسكر يحفل بالتناقضات، ولعل عنف المعارك والاشتباك بين الشرطة وخصوم العولمة في سياتل وبعض المدن الأمريكية والأوروبية يكشف عن أن الصورة أكثر تركيبا وتعقيداً مما كنا نتصور.
3 أن تناقض واختلاف مصالح وأهداف أطراف المعسكر المعادي للعولمة لا يعني استحالة اقامة حوار وربما تعاون بين هذه الأطراف، فإذا كان الجميع أو على الأقل معظم خصوم العولمة متفقين على تصحيح مسار العولمة، وعقلنة انطلاقها المتسرع وغير الرشيد، فإن هناك فرصة للحوار وتبادل الآراء والخبرات بحيث يمكن تنظيم القوى المعادية للعولمة، وترشيد أهدافها على قاعدة تحقيق المصالح المتبادلة لكل الأطراف.
وأعتقد أن الدول والمنظمات الأهلية غير الحكومية في دولة الجنوب يجب أن تعمل معا لتحديد أولويات العمل والتحرك، مع بحث امكانية الحوار مع خصوم وأعداء العولمة في دول الشمال.
د, محمد شومان