الشعر الشعبي ظاهرة صوتية عبد الله بن سالم الحميد |
أناخ راحلته على مقربة من أحد حقول العمل,, ودلف إلى أحد المكاتب ليراجع معاملة له,, سأله الموظف؟,, فقال له بأسلوب الهجيني الشارد: أنت الذي نوّخت المعاملة، وانت اللي بتثوّرها!! استفسر الموظف,, استفهم منه؟ فقال: أنا ما أعرف إلّا عربي!!.
بمثل هذا الاسلوب يرغب كثير من ممتطي موجة الشعر الشعبي التعامل مع التعبير في عصر التجاوز والاختزال!! ويرفضون الحوار للوصول إلى القناعة واحتضان التعبير الأمثل للإفصاح عن المراد والبقاء في أنسجة الذاكرة والخلود!!
ينطلق صوت من هنا محتج على نقد اللحن ويصفه بالاعوجاج المحتاج إلى تقويم وإصلاح فيغضب الصوت الآخر لهذا الوصف القاسي، ويلجأ إلى تبرير خطئه بخطأ آخر يزعم فيه أن هذه اللغة/ اللهجة الملحونة هي لغة الأصالة والفصاحة!! فيصحح له الآخر فهمه القاصر بما ستختزنه ذاكرته من تعرض الفصحاء للحن بسبب الارتحال والاختلاط بأعاجم، وطغيان لهجات الأنباط وتأثيرها على سلامة اللسان العربي وبخاصة في أكثر البلدان تحضراً واختلاطا!!.
وترتفع أصوات,, وتدور حوارات بيزنطية تختلط فيها الآراء وتطغى عليها ألسنة الضوضاء فتضيع الحكمة بين السطور!!.
ليست المشكلة في إثارة هذا الجدل بين أنصار الفصحى والمنتصرين للعامية وشعرها الهجين,, إنما تبقى المشكلة في عدم الإفادة من الحوار وإيجابياته في تشكيل الرؤى وتصحيح الأخطاء!! لابد أن هناك خطأ أو أخطاء كامنة في القضية,, وإذا أدركنا وجود الخطأ فلابد إذن من تصحيحه,, ,, لكن التساؤل الذي يطرحه هنا كل من المنصفين في الفريقين:
من الذي يتصدر التصحيح والتقويم والنقد؟؟.
ثم يرد تساؤل آخر عن مدى الاقتناع من نتيجة التقويم والنقد والتصويب؟! وتعود المشكلة إلى الدور والدوران في الفراغ لما يحدث خلال النقد والتقويم والتصويب من رؤى طارئة تشعب جداول الخلاف إلى شعب مختلفة,, فتتحول القضية إلى مشكلة ذات ذيول تضيف إليها أشعة الإعلام وأضواؤه صخبا وضوضاء وضجيجا مثيراً للسخرية والدهشة والتساؤلات، والعجب,, والضحك أحيانا!!.
ونتيجة هذه التراكمات، وتلك الفعاليات المتفاقمة وما استقطعته من آراء وأفكار وأصوات واجتهادات مثيرة,, انطلقت إمكانات وأصوات لإصدار صحف ومجلات اختصاصية تستغل وتطرح وتثير وتضيف إلى التراكمات أكواما أخرى تشتعل فيها الأصوات، وتنشغل فيها أصوات أخرى وتستقطب أصواتا مشهورة لتوثيق الخطى وتحقيق ألوان من النجاح والحضور,, فتزداد دوائر الفراغ,, وتنشطر أضواء التحديث إلى صور مختلفات,, فتتكسر الرماح!! ويمتطي الموجة من يرغب أو يطمح إلى الشهرة فينيخ ركابه لدى مضارب الشعر الشعبي؟
* وتنبثق تساؤلات من هنا: ماذا أضافت تلك المجلات الاختصاصية الطارئة للشعر الشعبي؟!
وتنطلق أهداف هذه التساؤل محتضنة الإجابات المتفاوتة الملأى بالثرثرة والحشو والتكرار لتؤكد أهمية الشعر الشعبي في حفظ التراث,,وأهمية التراث في حفظ الأصالة، وتبرير الأصالة بأنها لغة التخاطب، ونقد اللغة الصعبة المستعصية على افهام الدهماء الذين يشتركون في الطرح والنقاش الذي يجعل حتى من يستطيعون الكتابة السليمة بالفصيح إلى الكتابة الهجينة بلهجة أهل الحي في صحف ارتادها أنصاف المثقفين وقادها أنصاف الأميين ممن لا يملكون القدرة على التفريق بين الابداع والثرثرة، ولا يستطيعون فرز الغث من الثمين حيث اختلطت عليهم المعاني والمعادن والأبعاد,, فعلقوا في دوائر الازدواجية والحيرة والدهشة فصارت صحفهم أشبه بزوادة حاطب ليل أعشى طلع عليه الصباح وهو يغالب النعاس بعد نومة ثقيلة فقد خلالها كثيرا من الطاقات والإمكانات والوقت الثمين!! فوجد قوافل الإصدارات الطامحة قد تجاوزته بمراحل فركن إلى تبريرات التوزيع والإعلان والمزاعم الأخرى!! وكان أقرب وسائل إعادة ثقة القراء بالمسابقات والإعلانات,, فكان التوجه المكثف نحو ميدان (الرياضة ومنافساتها) و(الشعر الشعبي وتراكماته) و(الفن الغنائي وإثاراته) فتحولت الرياضة إلى تعصب لفريق ومديحه والدفاع عنه وتحول الإبداع إلى شعبي والشعر الشعبي إلى غزل ومديح في معظمه والفن إلى تطريب وتلميع تهريج!! وتحضن هذا التوجه كثير من القنوات الإعلامية!!
ومن المفارقات المثيرة للغرابة والعجب تبريرات حضور الشعر الشعبي من قبل أنصاره بأنه أقرب إلى فهم الناس ويقصدون العامة الدهماء وزعمهم في نقد الشعر الفصيح أن فيه شعراء كبارا ينتاب شعرهم الضعف والركاكة والتكرار,, وينسون تطبيق هذا النقد على الشعر النبطي في معظم حالاته وصوره وقصائده الجوفاء!! ويجنح كثير من منتقدي الشعر النبطي إلى المبالغة في ادعاء خطورته على اللغة الفصحى,, وكلا الفريقين مخطىء في ادعائه وتبريره!! أما المعتدلون المنصفون من أنصار اللغة الفصحى فهم يطمحون إلى الارتقاء باهتمامات المعبرين الكتاب والشعراء إلى تمثل هذه اللغة المقدسة للتعبير الأمثل عن هواجسهم وأفكارهم دون الركون إلى السائد والمبتذل والهجين للسمو بتلك التوجهات إلى آفاق الطموح والابتكار والإبداع,, ويدرك هؤلاء المنصفون أن المشكلة تبرز في ما نلحظه من مبالغة في تكثيف العناية والاهتمام بالشعر الشعبي على حساب الفصيح وحشد كثير من الأضواء والطاقات والحوافز والإمكانات لفرسان الشعر الشعبي في حين ظل فرسان الأصالة والحداثة في الشعر العربي في الظل رغم تجليات الإبداع ومقومات الحضور في الأعمال الشعرية لكثير منهم.
نحن لا نطالب بأكثر من الإنصاف لتجليات الإبداع في استقطاب الأصوات الإبداعية للتعبيرات في القنوات الأدبية والإعلامية (الصحافة، الإذاعة، التلفزيون، النوادي) وأن تتعامد تلك القنوات مع القنوات والنوادي الأدبية والثقافية والرياضية أيضا، لدعم الفكر والأدب الإبداع واستقطاب تجلياته المشرقة للإسهام في تنمية الوعي والثقافة لكي لا يطغى المفضول على الفاضل، والفاضل على الأفضل ولكي لا نظل متلقين لأصداء ظاهرة صوتية للشعر الشعبي المغنى والمنشور!! ولكي يصبح للإبداع طعم، وألف معنى ومعنى.
|
|
|