Friday 3rd December, 1999 G No. 9927جريدة الجزيرة الجمعة 25 ,شعبان 1420 العدد 9927


شعراء في الذاكرة
سليمان بن محمد النقيدان

دَرَجت في معظم كتاباتي طيلة عشرين سنة مضت على ألا اكتب إلا عن الشعراء المغمورين الذين لا يعرفون الا في محيطهم لأن ذلك هو الأصلح والأكثر فائدة.
ورب قائل يقول: ولكن الشاعر القوي لا يغيب عن الذاكرة بعد وفاته مهما طال الزمن فأقول:
هذه ليست قاعدة مسلم بها، بل ان هناك شعراء أَفَلت نجومهم قبل أن تجف قبورهم وعندي منهم عدد غير قليل، وليس ذلك قصور فيهم ولا في أدائهم فهم قمم في الشعر وانما الرواة والمتلقين من جيل الماضي هم الذين قصروا في تمريرهم الى الأبناء والأحفاد!.
والآن نحن امام علم من اعلام الشعر الشعبي وراوية من رواته اسمه (داني بن عيد المطوطح العنزي).
وكنيته أبو عيد.
عاصر الإمام فيصل بن تركي وابنيه محمد وعبد الله.
كان الشاعر في بدايات حياته وعز شبابه يجوب الارض سعيا وراء لقمة عيشه، ثم سكن بجوار فهيد امير بلدة التنومة من قرى الأسياح.
وكان محبا للشعر,, حافظاً للقصص واخبار الحروب والوقائع في بلاد نجد.
من اجل هذا احبه معاصروه,,وأخذوا يتسابقون الى مجالسه ينهلون من فيض قريحته الذي لا ينضب.
وتشير بعض الروايات انه كان حاد الطبع,, سريع الغضب,, لكنه من جانب آخر له قيمته واحترامه، بينما نسمع آخرون يقولون:
هذا ليس بصحيح، وانما حدة طبعه وسرعة غضبه على المتعصبين والمتزمتين لأفكارهم الذين لا يقرون لأحد بالتفوق عليهم!,, ولا يعترفون لغيرهم بالصواب!,, ولا صحة الا بما يقولون ويروون! وفوق ذلك يتصدرون المجالس ولا يدعون فرصة لغيرهم أن يتحدث!, وإن اعترض عليهم احد الجلوس مبدياً اشارة,, أو مصححاً عبارة انتفخت اوردتهم,, وغضبوا,,! محتجين بحجج وأدلة واهية فلا لوم على المطوطح أن يكون حاد الطبع وسريع الغضب على هؤلاء ومن الطبيعي والحالة هذه أن تشتعل صدورهم بنار الغيرة والحسد فينقلبون خصوماً واندادا بسبب هذا التفوق الكاسح فيرمون هؤلاء الصفوة من البشر بشتى السباب والتهم ليشوهوا صورهم ويقللوا من قدرهم!.
ويروي لنا شيوخنا من كبار السن رحمهم الله انه لما بلغ به الكبر كف بصره,, وأخذ يعاني معاناة قاسية من الفقر وشظف العيش,, واشتدت به المصائب والمحن فوق طاقته، من اجل هذا واحتساباً للأجر والثواب قرّبه امير التنومة وانزله جوار بيته وصار يتردد على مجلسه ويأكل على سفرته.
وسارت الأمور على ما يرام مدة طويلة لكن الأيام لا تدوم على حال ولا تستقر على وضع، اذ انقلب عليه فهيد وأسمعه كلاماً موجعاً لم يحتمله! فعزم على الرحيل من التنومة الى أماكن حددها في قصيدة له أدناه وهي: الجرعا والقسومي والقصوريات، وهي أماكن تقع شمال شرق القصيم.
وتشير بعض المصادر ان فهيد قد اعطاه احدى النياق التي كانت تسنو في مزرعته ليحمل عليها متاعه,, وأخذ يخفي عنه اللحم!,, ولا يدعوه الى مجلسه كما كان معتاداً، ولا اعتقد ان فهيد قد تضايق منه بخلاً في الطعام فهو رجل كريم ومضياف,, وينتسب الى عائلة عرف عنها الكرم وفعل الخير,, ومدّ يد العون لكل فقير ومحتاج.
إذاً، ماذا فعل المطوطح حتى غضب منه فهيد؟,, وماذا قال فهيد حتى غضب منه المطوطح وقرر الرحيل عنه؟.
قالوا:
في يوم من الأيام غص مجلس فهيد بحشد من الضيوف من كل قبيلة وعشيرة,, وكان وقتهم وقت خوف وذل,, والكلمة يجب ان توزن في هذا المجلس ويحسب لها ألف حساب قبل التفوه بها.
ولما كان الحديث بالغ الحساسية، جاء دور المطوطح ليتكلم فأراد ان يسهب في الحديث ويتقعر فيه فتنحنح فهيد ان اسكت وكفى.
قالوا: فلم يمتنع عن الحديث لأنه لم ينتبه وقيل: لأنه كان لا يرى من وجهة نظره ما يوجب السكوت، فليس سراً في ذلك الحديث الذي دار، فقال له فهيد امام هذا الجمع: أنت لا تحسن الكلام وعلومك بايهة!.
ففوجىء المطوطح وكأن ضربة قوية تسدد على قمة رأسه! ولكن تشجع وضغط على أعصابه وسكت، لأنه في بيت جاره، فلا يليق به أن يرد بالمثل، لأن احتكاك الحديد بالحديد يجر الى اسوأ العواقب، فتمخض الموقف عن قصيدة قال فيها قبل مغادرته بلدة التنومة:
يا شيخ ما هي بايهات علومي
مير ان ما عندك لهرجي ملافي
غروك زيلان سوات الرجومي
ازوال ناس ما تعرف الخلافي
امهل علينا جعل عمرك يدومي
ترى الليالي خيرها باختلافي
لا بد ما يزمي طويل الحزومي
بيني وبينك يا ربيع الضعافي
يا عيني اللي كن فيها هزومي
والكبد كنه فوق حامي الرضافي
حلفت ما اخلي طريق اللزومي
لا اشرب هناي من ازرق الجم صافي
وخلاف ذا دنيت حمرٍ ردومي
شيبا ظهر من كثر سوج الضلافي
ما وقفت بالسوق للي يسومي
حايل ثلاث سنين عقب العسافي
باغٍ عليها اضرب طريق اليمومي
متنحرٍ هاك البيوت الملافي
دسمين الايدي لا سرن النجومي
ذباحة للبل سوق الشعافي
ربعي هل الشيمات واهل العزومي
يا ما قزى بايمانهم من سنافي
اهل ضعونٍ ما تلاهم يهومي
قطعان لا مدوا سلفهم يشافي
صفر يطاوعن المقاود سجومي
ومزرجات فيهن الريش وافي
ترعى من الجرعا لحد القسومي
وترعى القصوريات ما هن عيافي
ترعى بعشب باذرته الوسومي
وتقطف زهر نوار عقب الهيافي
ولقد حصلت على كراس قديم أهداه لي احد الفضلاء قبل ثلاثة عقود من الزمان وجده في تركة والده كتب بخط اليد فوجدت ضمن أوراقه ما يلي:
كان المطوطح قصيراً لفهيد أمير التنومة فذبح فهيد ذبيحة ولم يدع المطوطح لها او يطعمه منها! فقال:
ما خفت من رب المقادير يا فهيد
يا شين ما حققتنا من ذبيحة؟
ومن اللحم لو تذبحون المعاويد
قصيركم بالعون ما شاف ريحه؟
ومرسولكم من يمنا تقل به قيد
ما ادري عمى والا عيونه صحيحه؟
ولا أستبعد أن القصيدة أطول من ذلك وهي توحي انه نظمها بعد ذلك النزاع، وانه تباطأ بالرحيل وأخذ ينظم القصائد جزعاً وشرهاً على فهيد ولكن فهيد ادار له ظهره عله يتوكل على الله ويرحل في أسرع ما يمكن.
عندها علم شاعر الزلفي رشيد العلي الحمد وهو من الأساعدة الفخد الذي ينتمي اليه فهيد، علم بما جرى فرد على المطوطح منتصراً لفهيد بقصيدة يحذره فيها من مغبة التمادي في الكلام، وانه هو وجماعته أهل الزلفي على اتم الاستعداد لأن يخوضوا الحرب ضده لاسكاته، يقول فيها على نفس الوزن والقافية:
يا راكب اللي كنها قايد الصيد
عمليةٍ دبّ الدهر مستريحه
ما شق له نابٍ ولا بان له ديد
تمشي بهونٍ والركايب مشيحه
مدت من الزلفي صبيحٍ بتبريد
والعصر يزمي له طريفٍ وكيحة (1)
تلفي المطوطح شوق من تنقش الإيد
اللي نهار الكون يرمي طريحه
العارفة مثلك عيال الأجاويد
لا شاف غلطات العرب ما يبيحه
لي لابةٍ مثل الفهود الملابيد
تبقي على مثلك تجيهم بصيحة
واخاف توهف بك خطات المزانيد
تصير براس الرمح مثل الشريحة
وأخذ المطوطح ورشيد يتبادلان الهجاء وقتاً طويلاً بهذه المناسبة وكل أشعارهما ضاعت ما عدا قصيدة واحدة نحفظها للمطوطح التي وجهها الى رشيد يقول فيها:
يا راكب حر طوال متونه
عليه من شغل المزيني كلايف
هميلع ٍ كن الخلايص عيونه
غوجٍ يومي بالغلب والسفايف
من قصر ابن جاسر يروح بهونه
يلفي هل الزلفي وساع المضايف
الكلمة اللي قلت مالك مهونه
تستاهله يا شوق ناب الردايف
جار المهادي لين زلت حتونه
صبر على بلواه وايش انت شايف؟
الجار يحشم لين تقفي ضعونه
ايضا ولا يوعد بضرب الرهايف
اللي عليه غطاه لاتكشفونه
تراه يرث له علوم عنايف
الى أن قال:
شعري كما الهدار ما تنزحونه
كلٍّ صدر من جمة البير عايف
ولأبو عيد المطوطح رحمة الله عليهم جميعاً قصة مشهورة غالباً ما ترد على ألسنة الرواة ولكنهم لا يعرفون دقائق تفاصيلها وتتمثل في ذلك الرجل قاصر العقل الذي نزل عليه المطوطح ولكنه لم يحسن استقباله,, أو يقوم بواجب الضيافة فقال فيه أبيات مطلعها:
معزبي عندي سوات الفصيل
أنا اشهد انه ثور ما هو برجّال
وجميع الذين كتبوا عن هذا الموضوع لم يذكروا مناسبتها! او يستوفوا فصولها!,, وفي اي مكان حدثت بما فيهم الشيخ عبد الله بن خميس، وسوف نعود إن شاء الله الى تكملة حديثنا عن المطوطح مع ذكر القصة في عدد قادم في تراث الجزيرة إن اراد الله لنا حياة والى اللقاء.
* هامش:
(1) طريف وكيح: كاف ياء وحاء من قرى الأسياح المطلة عليها.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

المتابعة

أفاق اسلامية

ملحق الميدان

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved